البحر المحيط، ج ٨، ص : ٥٢٤
الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ
مناسبة قصة داود وسليمان، عليهما السلام، لما قبلها، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره، إن شاء اللّه، من تأويب الجبال والطير مع داود، وإلانة الحديد، وهو الجرم المستعصي، وتسخير الريح لسليمان، وإسالة النحاس له، كما ألان الحديد لأبيه، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة.
وقيل : لما ذكر من ينيب من عباده، ذكر من جملتهم داود، كما قال : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ «١»، وبين ما آتاه اللّه على إنابته فقال : وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان، عليهما السلام، احتجاجا على ما منح محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم :
أي لا تستبعدوا هذا، فقد تفضلنا على عبيدنا قديما بكذا وكذا. فلما فرغ التمثيل لمحمد، عليه السّلام، رجع التمثيل لهم بسبأ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو. انتهى. والفضل الذي أوتي داود : الزبور، والعدل في القضاء، والثقة باللّه، وتسخير الجبال، والطير، وتليين الحديد، أقوال. يا جِبالُ : هو إضمار القول، إما مصدر، أي قولنا يا جِبالُ، فيكون بدلا من فَضْلًا، وأما فعلا، أي قلنا، فيكون بدلا من آتَيْنا، وإما على الاستئناف، أي قلنا يا جِبالُ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية، حيث نادى الجبال وأمرها. وقرأ الجمهور : أَوِّبِي، مضاعف آب يؤب، ومعناه : سبحي معه، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد. وقال مؤرج، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي، بلغة الحبشة، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح، أي تردد بالذكر، وضعف الفعل للمبالغة، قاله ابن عطية. ويظهر أن التضعيف للتعدية، فليس للمبالغة، إذ أصله آب، وهو لازم بمعنى :
رجع اللازم فعدى بالتضعيف، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح.
قال الزمخشري : ومعنى تسبيح الجبال : أن اللّه يخلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبح، معجزة لداود. قيل : كان ينوح على ذنبه

(١) سورة ص : ٣٨/ ٢٤.


الصفحة التالية
Icon