البحر المحيط، ج ٨، ص : ٥٥٢
ما جاءهم رسول، بل هم مقرون. ألا ترى إلى قول المتبوعين : بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ؟
فالجمع المقرون بأن الذكر قد جاءهم، فقال لهم رؤساؤهم : أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ، فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارا، لأن يكونوا هم الذين صدوهم. صددتم من قبل أنفسكم وباختياركم بعد أداة الاستفهام، كأنهم قالوا : نحن أخبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلالة على الهدى، فكنتم مجرمين كافرين باختياركم، لا لقولنا وتسويلنا. ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم، وأثبتوا بقولهم : بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ، أن كفرهم هو من قبل أنفسهم، قابلوا إضرابا بإضراب، فقال الأتباع : بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ : أي ما كان إجرامنا من جهتنا، بل مكركم لنا دائما ومخادعتكم لنا ليلا ونهارا، إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم، مطيعون لكم لاستيلائكم علينا بالكفر باللّه واتخاذ الأنداد. وأضيف المكر إلى الليل والنهار اتسع في الظرفين، فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة، أو في موضع رفع على الإسناد المجازي، كما قالوا : ليل نائم، والأولى عندي أن يرتفع مكر على الفاعلية، أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار، ونظيره قول القائل : أنا ضربت زيدا بل ضربه عمرو، فيقول : بل ضربه غلامك، والأحسن في التقدير أن يكون المعنى : ضربه غلامك.
وقيل : يجوز أن يكون مبتدأ وخبرا، أي سبب كفرنا. وقرأ قتادة، ويحيى بن يعمر : بل مكر بالتنوين، الليل والنهار نصب على الظرف. وقرأ سعيد بن جبير بن محمد، وأبو رزين، وابن يعمر أيضا : بفتح الكاف وشد الراء مرفوعة مضافة، ومعناه : كدور الليل والنهار واختلافهما، ومعناها : الإحالة على طول الأمل، والاغترار بالأيام مع أمر هؤلاء الرؤساء الكفر باللّه. وقرأ ابن جبير أيضا، وطلحة، وراشد هذا من التابعين ممن صحح المصاحف بأمر الحجاج : كذلك، إلا أنهم نصبوا الراء على الظرف، وناصبه فعل مضمر، أي صددتمونا مكر الليل والنهار، أي في مكرهما، ومعناه دائما. وقال صاحب اللوامح : يجوز أن ينتصب بإذ تأمروننا مكر الليل والنهار. انتهى. وهذا وهم، لأن ما بعد إذ لا يعمل فيما قبلها. وقال الزمخشري : بل يكون الإغراء مكرا دائما لا يفترون عنه. انتهى.
وجاء قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بغير واو، لأنه جواب لكلام المستضعفين، فاستؤنف، وعطف وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا على ما سبق من كلامهم، والضمير في وَأَسَرُّوا للجميع المستكبرين والمستضعفين، وهم الظالمون الموقوفون، وتقدم الكلام في وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ في سورة يونس، والندامة من المعاني القلبية، فلا


الصفحة التالية
Icon