البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٠٨
إهلاكهم وسوء عاقبتهم، واستثنى المخلصين من عباده، وهم الأقل المقابل لقوله : أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ، والمعنى : إلا عباد اللّه، فإنهم نجوا. ولما ذكر ضلال الأولين، وذكر أولهم شهرة، وهم قوم نوح، عليه السلام، تضمن أشياء منها : الدعاء على قومه، وسؤاله النجاة، وطلب النصرة. وأجابه تعالى في كل ذلك إجابة بلغ بها مراده. واللام في فَلَنِعْمَ جواب قسم كقوله :
يمينا لنعم السيدان وجدتما والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : فلنعم المجيبون نحن، وجاء بصيغة الجمع للعظمة والكبرياء لقوله : فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ «١» والْكَرْبِ الْعَظِيمِ، قال السدي :
الغرق، ومنه تكذيب الكفرة وركوب الماء، وهوله، وهم فصل متعين للفصلية لا يحتمل غيره. قال ابن عباس، وقتادة : أهل الأرض كلهم من ذرية نوح. وفي الحديث :«أنه عليه السلام قرأ وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ فقال : سام وحام ويافث».
وقال الطبري : العرب من أولاد سام، والسودان من أولاد حام، والترك وغيرهم من أولاد يافث. وقالت فرقة : أبقى اللّه ذرية نوح ومد في نسله، وليس الناس منحصرين في نسله، بل في الأمم من لا يرجع إليه.
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ : أي في الباقين غابر الدهر ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا في آخر الدهر، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وسلام : رفع بالابتداء مستأنف، سلم اللّه عليه ليقتدي بذلك البشر، فلا يذكره أحد من العالمين بسوء. سلم تعالى عليه جزاء على ما صبر طويلا، من أقوال الكفرة وإذايتهم له.
وقال الزمخشري : وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، هذه الكلمة، وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ يعني : يسلمون عليه تسليما، ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقولك :
قرأت سورة أنزلناها. انتهى. وهذا قول الفراء وغيره من الكوفيين، وهذا هو المتروك عليه، وكأنه قال : وتركنا على نوح تسليما يسلم به عليه إلى يوم القيامة. انتهى. وفي قراءة عبد اللّه : سلاما بالنصب، ومعنى في العالمين : ثبوت هذه التحية مثبوتة فيهم جميعا، مدامة عليه في الملائكة، والثقلين يسلمون عليه عن آخرهم. ثم علل هذه التحية بأنه كان محسنا، ثم علل إحسانه بكونه مؤمنا، فدل على جلالة الإيمان ومحله عند اللّه.