البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٨٥
متتابعا، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض. انتهى. أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ : العزيز الذي لا يغالب، الغفار لمن تاب، أو الحليم الذي لا يعجل، سمى الحلم غفرانا مجازا.
ولما ذكر ما دل على وحدانيته وقهره، ذكر الإنسان، وهو الذي كلف بأعباء التكاليف، فذكر أنه أوجدنا من نفس واحدة، وهي آدم عليه السلام، وذلك
أن حواء على ما روي خلقت من آدم
، فقد صار خلقا من نفس واحدة لوساطة حواء. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذر، ثم خلق بعد ذلك حواء
، فعلى هذا كان خلقا من آدم بغير واسطة.
وجاءت على هذا القول على وضعها، ثم للمهلة في الزمان، وعلى القول الأول يظهر أن خلق حواء كان بعد خلقنا، وليس كذلك. فثم جاء لترتيب الأخبار كأنه قيل : ثم كان من أمره قبل ذلك أن جعل منها زوجها، فليس الترتيب في زمان الجعل. وقيل : ثم معطوف على الصفة التي هي واحدة، أي من نفس وحدت، أي انفردت.
ثُمَّ جَعَلَ، قال الزمخشري : فإن قلت : ما وجه قوله تعالى : ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها، وما تعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان من جملة الآيات التي عددها، دالا على وحدانيته وقدرته. تشعب هذا الفائت للحصر من نفس آدم وخلق حواء من قصيراه، إلا أن إحداهما جعلها اللّه عادة مستمرة، والأخرى لم تجر بها العادة، ولم تخلق أنثى غير حواء من قصيري رجل، فكانت أدخل في كونها آية، وأجلب لعجب السامع، فعطفها بثم على الآية الأولى، للدلالة على مباينتها فضلا ومزية، وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادة كونها آية، فهو من التراخي في الحال والمنزلة، لا من التراخي في الوجود.
انتهى. وأما ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها، فقد تقدّم الكلام على هذا الجعل في أول سورة النساء، ووصف الأنعام بالإنزال مجازا ما، لأن قضاياه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح : كل كائن يكون وأما لعيشها بالنبات والنبات ناشىء عن المطر والمطر نازل من السماء فكأنه تعالى أنزلها، فيكون مثل قول الشاعر :
أسنمة الإبال في ربابه أي : في سحابه، وقال آخر :
صار الثريد في رؤوس العيدان وقيل : خلقها في الجنة ثم أنزلها، فعلى هذا يكون إنزال أصولها حقيقة. والأنعام :