البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٩١
أمرت على أمرت وهما واحد؟ قلت : ليسا بواحد لاختلاف جهتيهما، وذلك أن الأمر بالإخلاص وتكليفه شيء، والأمر به لتحرز به قصب السبق في الدين شيء. وإذا اختلف وجها الشيء وصفتاه ينزل بذلك منزلة شيئين مختلفين، ولك أن تجعل اللام مزيدة مثلها في أردت، لأن أفعل لا تزاد إلا مع أن خاصة دون الاسم الصريح، كأنها زيدت عوضا من ترك الأصل إلى ما يقوم مقامه، كما عوض السين في اسطاع عوضا من ترك الأصل الذي هو أطوع. والدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله : أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ «١». انتهى. ويحتمل في أن أكون في ثلاثة المواضع أصله لأن أكون، فيكون قد حذفت اللام، والمأمور به محذوف، وهو المصرح به هنا إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ. قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ : تقدّم الكلام على هذه الجملة مقول القول في سورة يونس.
لما أمره أولا أن يخبر بأنه أمر بعبادة اللّه، أمر ثانيا أن يخبر بأنه يعبد اللّه وحده.
وتقديم الجلالة دال على الاهتمام بمن يعبد، وعند الزمخشري يدل على الاختصاص، قال : ولدلالته على ذلك، قدم المعبود على فعل العبادة، وأخره في الأول. فالكلام أولا واقع في الفعل في نفسه وإيجاده، وثانيا فيمن يفعل الفعل لأجله، ولذلك رتب عليه قوله :
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ. والمراد بهذا الأمر الوارد على وجه التخيير المبالغة في الخذلان والتخلية. انتهى. وقال غيره : فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ : صيغة أمر على جهة التهديد لقوله : قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ «٢». قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ : أي حقيقة الخسران، الَّذِينَ خَسِرُوا : أي هم الذين خسروا أنفسهم، حيث صاروا من أهل النار، وَأَهْلِيهِمْ : الذين كانوا معهم في الدنيا، حيث كانوا معهم في النار، فلم ينتفعوا منهم بشيء، وإن كان أهلوهم قد آمنوا، فخسرانهم إياهم كونهم لا يجتمعون بهم ولا يرجعون إليهم. وقال قتادة : كأن اللّه قد أعد لهم أهلا في الجنة فخسروهم، وقال معناه ميمون بن مهران. وقال الحسن : هي الحور العين، ثم ذكر ذلك الخسران وبالغ فيه في التنبيه عليه أولا، والإشارة إليه، وتأكيده بالفعل، وتعريفه بأل، ووصفه بأنه المبين : أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل.
ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم، ذكر حالهم في جهنم، وأنه من فوقهم ظلل ومن تحتهم ظلل، فيظهر أن النار تغاشهم من فوقهم ومن تحتهم، وسمى ما تحتهم ظللا
(٢) سورة الزمر : ٨.