البحر المحيط، ج ٩، ص : ١٩٦
ثم إذا ذكروا للّه ورحمته لانت جلودهم، أي زال عنها ذلك التقبض الناشئ عن خشية القلوب بزوال الخشية عنها، وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة، وقلوبهم راجية غير خاشية، ولذلك عداه بإلى. وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع، فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب. فلما ذكر اللين ذكرهما، وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة اللّه، كما كان في قوله : إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ «١»، دليل بقوله : وَجِلَتْ عن ذكر المحذوف، أي إذا ذكر وعيد اللّه وبطشه. وقال العباس بن عبد المطلب : قال النبي عليه السلام :«من اقشعر جلده من خشية اللّه تحاتت عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها».
وقال ابن عمر : وقدر أي ساقطا من سماع القرآن فقال : إنا لنخشى اللّه، وما نسقط هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم. وقالت أسماء بنت أبي بكر : كان أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم عند سماع القرآن، قيل لها : إن قوما اليوم إذا سمعوا القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت : أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. وقال ابن سيرين : بيننا وبين هؤلاء الذين بصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن رمى بنفسه فهو صادق. والإشارة بذلك إلى الكتاب، أو إلى ذينك الوصفين من الاقشعرار واللين، أي أثر هدى اللّه. أَفَمَنْ يَتَّقِي :
أي يستقبل، كما قال الشاعر :
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
أي : استقبلتنا بيدها لتقي بيدها وجهها أن يرى. والظاهر حمل بوجهه على حقيقته. لما كان يلقى في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه، لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه. قال مجاهد : يجر على وجهه في النار، ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة. وقيل : المعنى وصف كثرة ما ينالهم من العذاب، يتقيه أولا بجوارحه، فيتزيد حتى يتقيه بوجهه الذي هو أشرف جوارحه، وفيه جواب، وهو غاية العذاب. قال ابن عطية : وهذا المعنى عندي أبين بلاغة. في هذا المضمار يجري قول الشاعر :
يلقي السيوف بوجهه وبنحره ويقيم هامته مقام المغفر
لأنه إنما أراد عظم جرأته عليها، فهو يلقاها بكل مجن، وبكل شيء عنه، حتى بوجهه