البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢١٩
تقول : كسانا حلة، أي كل واحد منا. فإن قلت : كيف يصح هذا الكلام مع علم اللّه تعالى أن رسله لا يشركون ولا يحبط أعمالهم؟ قلت : هو على سبيل الفرض والمحالات يصح فرضها ثم ذكر كلاما يوقف عليه في كتابه. ويستدل بهذه الآية على حبوط عمل المرتد من صلاة وغيرها. وأوحى : مبني للمفعول، ويظهر أن الوحي هو هذه الجمل : من قوله : لَئِنْ أَشْرَكْتَ إلى مِنَ الْخاسِرِينَ وهذا لا يجوز على مذهب البصريين، لأن الجمل لا تكون فاعلة، فلا تقوم مقام الفاعل. وقال مقاتل : أوحى إليك بالتوحيد، والتوحيد محذوف. ثم قال : لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ، والخطاب للنبي عليه السلام خاصة. انتهى.
فيكون الذي أقيم مقام الفاعل هو الجار والمجرور، وهو إليك، وبالتوحيد فضلة يجوز حذفها لدلالة ما قبلها عليه. وقرأ الجمهور : لَيَحْبَطَنَّ مبنيا للفاعل، عَمَلُكَ : رفع به. وقرىء بالنون أي : لنحبطن عملك بالنصب، والجلالة منصوبة بقوله : فاعبد على حدّ قولهم : زيد فاضرب، وله تقرير في النحو وكيف دخلت هذه الفاء. وقال الفراء : إن شئت نصبه بفعل مضمر قبله، كأنه يقدر : اعبد اللّه فاعبده.
وقال الزمخشري : بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ، ردّ لما أمروه به من استلام بعض آلهتهم، كأنه قال : لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد اللّه، فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضا منه. انتهى. ولا يكون تقدم المفعول عوضا من الشرط لجواز أن يجيء :
زيد فعمرا اضرب. فلو كان عوضا، لم يجز الجمع بينهما. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لأنعمه التي أعظمها الهداية لدين اللّه. وقرأ عيسى : بل اللّه بالرفع، والجمهور : بالنصب. وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ : أي ما عرفوه حق معرفته، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة. وقرأ الأعمش : حق قدره بفتح الدال وقرأ الحسن، وعيسى، وأبو نوفل، وأبو حيوة : وما قدروا بتشديد الدال، حق قدره : بفتح الدال، أي ما عظموه حقيقة تعظيمه. والضمير في قدروا، قال ابن عباس : في كفار قريش، كانت هذه الآية كلها محاورة لهم وردّا عليهم. وقيل : نزلت في قوم من اليهود تكلموا في صفات اللّه وجلاله، فألحدوا وجسموا وجاءوا بكل تخليط. وهذه الجملة مذكورة في الأنعام وفي الحج وهنا.
ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته، نبههم على عظمته وجلالة شأنه على طريق التصوير والتخييل فقال : وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ.