البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٣٦
أن يغتر بتقلب هؤلاء الكفار في البلاد وتصرفاتهم فيها، بما أمليت لهم من المساكن والمزارع والممالك والتجارات والمكاسب، وكانت قريش تتجر في الشام والمين فإن ذلك وبال عليهم وسبب في إهلاكهم، كما هلك من كان قبلهم من مكذبي الرسل.
وقرأ الجمهور : فَلا يَغْرُرْكَ، بالفك، وهي لغة أهل الحجاز. وقرأ زيد بن علي :
وعبيد بن عمير : فلا يغرك، بالإدغام مفتوح الراء، وهي لغة تميم. ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول، عليه السلام، من آيات اللّه، ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة، وما صار إليه حالهم من حلول نقمات اللّه بهم، ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول، عليه السلام، إليهم فبدأ بقوم نوح، إذ كان عليه السلام أول رسول في الأرض، وعطف على قومه الأحزاب، وهم الذين تحزبوا على الرسل. ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند اللّه، ومنهم : عاد وثمود وفرعون وأتباعه، وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل، لأن الرسل لما عصمهم اللّه منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل. وقرأ الجمهور :
بِرَسُولِهِمْ وقرأ عبد اللّه : برسولها، عاد الضمير إلى لفظ أمة. لِيَأْخُذُوهُ : ليتمكنوا منه بحبس أو تعذيب أو قتل. وقال ابن عباس : ليأخذوه : ليملكوه، وأنشد قطرب :
فأما تأخذوني تقتلوني فكم من آخذ يهوى خلودي
ويقال للقتيل والأسير : أخيذ. وقال قتادة : لِيَأْخُذُوهُ : ليقتلوه، عبر عن المسبب بالسبب. وَجادَلُوا بِالْباطِلِ : أي بما هو مضمحل ذاهب لا ثياب له. وقيل : الباطل :
الكفر. وقيل : الشيطان. وقيل : بقولهم : ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا «١». لِيُدْحِضُوا :
ليزلقوا، بِهِ الْحَقَّ : أي الثابت الصدق. فَأَخَذْتُهُمْ : فأهلكتهم. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ إياهم، استفهام تعجيب من استئصالهم، واستعظام لما حل بهم، وليس استفهاما عن كيفية عقابهم، وكانوا يمرون على مساكنهم ويرون آثار نعمة اللّه فيهم واجتزأ بالكسر عن ياء الإضافة لأنها فاصلة، والأصل عقابي. وَكَذلِكَ حَقَّتْ : أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة، كونهم من أصحاب النار، من تقدم منهم ومن تأخر.
وأَنَّهُمْ : بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ، فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون التقدير لأنهم وحذف لام العلة. والمعنى : كما وجب إهلاك أولئك الأمم، وجب إهلاك هؤلاء، لأن الموجب لإهلاكهم وصف جامع لهم، وهو كونهم من أصحاب النار. وفي مصحف