البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٥٣
تراك أمكنة إذا لم أرضها ويريك من بعض النفوس حمامها
قلت : إن صحت الرواية عنه فقد حق في قول المازني في مسألة العافي كان أحفى من أن يفقه ما أقول له. انتهى، ويعني أن أبا عبيدة خطأه الناس في اعتقاده أن بعضا يكون بمعنى كل، وأنشدوا أيضا في كون بعض بمعنى كل قول الشاعر :
إن الأمور إذا الأحداث دبرها دون الشيوخ في بعضها خللا
أي : إذا رأى الأحداث، ولذلك قال دبرها ولم يقل دبروها، راعى المضاف المحذوف.
إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ فيه : إشارة إلى علو شأن موسى، عليه السلام، وأن من اصطفاه اللّه للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب، وفيه تعريض بفرعون، إذ هو غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين، وفي غاية الكذب، إذ ادّعى الإلهية والربوبية، ومن هذا شأنه لا يهديه اللّه. وفي الحديث :«الصديقون ثلاثة : حبيب النجار مؤمن آل يس، ومؤمن آل فرعون، وعليّ بن أبي طالب».
وفي الحديث :«أنه عليه السلام، طاف بالبيت، فحين فرغ أخذ بمجامع ردائه، فقالوا له : أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا؟ فقال : أنا ذاك، فقام أبو بكر، رضي اللّه عنه، فالتزمه من ورائه وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي اللّه، وقد جاءكم بالبينات من ربكم»، رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه.
وعن جعفر الصادق : أن مؤمن آل فرعون قال ذلك سرّا، وأبو بكر قاله ظاهرا.
وقال السدي : مسرف بالقتل. وقال قتادة : مسرف بالكفر. وقال صاحب التحرير والتحبير : هذا نوع من أنواع علم البيان تسميه علماؤنا استدراج المخاطب، وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، والقوم على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يخفي عليهم بها أنه متعصب له، وأنه من أتباعه، فجاءهم من طريق النصح والملاطفة فقال : أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ولم يذكر اسمه، بل قال رجلا يوهم أنه لا يعرفه ولا يتعصب له، أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، ولم يقل رجلا مؤمنا باللّه، أو هو نبي اللّه، إذ لو قال شيئا من ذلك لعلموا أنه متعصب. ولم يقبلوا قوله، ثم اتبعه بما بعد ذلك، فقدم قوله :
وَإِنْ يَكُ كاذِباً، موافقة لرأيهم فيه. ثم تلاه بقوله : وَإِنْ يَكُ صادِقاً، ولو قال هو صادق وكل ما يعدكم، لعلموا أنه متعصب، وأنه يزعم أنه نبي، وأنه يصدقه، فإن الأنبياء لا تخل بشيء مما يقولونه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدق، وهو قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ. انتهى.
ثم قال : يا قَوْمِ نداء متلطف في موعظتهم. لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ : أي