البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٥٩
فتنفعه الذكرى في سورة عبس، إذ هو جواب الترجي في قوله : لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى «١». وقد تأولنا ذلك على أن يكون عطفا على التوهم، لأن خبر لعل كثيرا جاء مقرونا بأن في النظم كثيرا، وفي النثر قليلا. فمن نصب، توهم أن الفعل المرفوع الواقع خبرا كان منصوبا بأن، والعطف على التوهم كثير، وإن كان لا ينقاس، لكن إن وقع شيء وأمكن تخريجه عليه خرج، وأما هنا، فأطلع، فقد جعله بعضهم جوابا للأمر، وهو قوله :
ابْنِ لِي صَرْحاً، كما قال الشاعر :
يا ناق سيري عنقا فسيحا إلى سليمان فنستريحا
ولما قال : فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى، كان ذلك إقرارا بإله موسى، فاستدرك هذا الإقرار بقوله : وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً : أي في ادعاء الإلهية، كما قال في القصص : لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ «٢». وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين في إيهام فرعون أنه يطلع إلى إله موسى. زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ. وقرأ الجمهور : زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ مبنيا للمفعول وقرىء : زين مبنيا للفاعل. وقرأ الجمهور : وَصُدَّ مبنيا للفاعل : أي وصد فرعون والكوفيون : بضم الصاد مناسبا لزين مبنيا للمفعول وابن وثاب : بكسر الصاد، أصله صدد، نقلت الحركة إلى الصاد بعد توهم حذفها وابن أبي إسحاق، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، بفتح الصاد وضم الطاء، منونة عطفا على سُوءُ عَمَلِهِ. والتباب : الخسران، خسر ملكه في الدنيا فيها بالغرق، وفي الآخرة بخلود النار، وتكرر وعظ المؤمن إثر كلام فرعون بندائه قومه مرتين، متبعا كل نداء بما فيه زجر واتعاظ لو وجد من يقبل، وأمر هنا باتباعه لأن يهديهم سبيل الرشاد. وقرأ معاذ بن جبل : بشد الشين، وتقدم الكلام على ذلك. والرد على من جعل هذه القراءة في كلام فرعون، وأجمل أولا في قوله : سَبِيلَ الرَّشادِ، وهو سبيل الإيمان باللّه واتباع شرعه. ثم فسر، فافتتح بذم الدنيا وبصغر شأنها، وأنها متاع زائل، هي ومن تمتع بها، وأن الآخرة هي دار القرار التي لا انفكاك منها، إما إلى جنة، وإما إلى نار. وكذلك قال : مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، والأعمش، والإخوان، والصاحبان، وحفص : يَدْخُلُونَ مبنيا للفاعل، وباقي السبعة، والأعرج، والحسن، وأبو جعفر، وعيسى : مبنيا للمفعول.
وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ، تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ
(٢) سورة القصص : ٢٨/ ٣٨.