البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٨٣
أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ، قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ
هذه السورة مكية بلا خلاف، ومناسبتها لما قبلها، أنه قال في آخر ما قبلها : أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ «١» إلى آخرها، فضمن وعيدا وتهديدا وتقريعا لقريش، فأتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر، فذكر أنه نزل كتابا مفصلا آياته، بشيرا لمن اتبعه، ونذيرا لمن أعرض عنه، وأن أكثر قريش أعرضوا عنه. ثم ذكر قدرة الإله على إيجاد العالم العلوي والسفلي. ثم قال : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً، فكان هذا كله مناسبا لآخر سورة المؤمن من عدم انتفاع مكذبي الرسل حين التبس بهم العذاب، وكذلك قريش حل بصناديدها من القتل والأسر والنهب والسبي، واستئصال أعداء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ما حل بعاد وثمود من استئصالهم.
روي أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه، وليقبح عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به. فلما تكلم عتبة، قرأ رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :
حم، ومر في صدرها حتى انتهى إلى قوله : فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ، فأرعد الشيخ ووقف شعره، فأمسك على فم رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بيده، وناشده بالرحم أن يمسك، وقال حين فارقه : واللّه لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي.
تَنْزِيلٌ، رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هذا تنزيل عند الفراء، أو مبتدأ خبره كِتابٌ فُصِّلَتْ، عند الزجاج والحوفي، وخبر حم إذا كانت اسما للسورة، وكتاب على قول الزجاج بدل من تنزيل.
قيل : أو خبر بعد خبر. فُصِّلَتْ آياتُهُ، قال السدي : بينت آياته، أي فسرت معانيه، ففصل بين حرامه وحلاله، وزجره وأمره، ووعده ووعيده. وقيل : فصلت في التنزيل : أي

(١) سورة غافر : ٤٠/ ٨٢.
البحرب ونحو الجوارح، وبعضها في الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، ودرجات أهل الجنة ودركات أهل النار وبعضها في المواعظ والنصائح وبعضها في تهذيب الأخلاق ورياضة النفس وبعضها في قصص الأولين وتواريخ الماضين. وبالجملة، فمن أنصف، علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة مثل ما في القرآن. انتهى.
وقرىء : فصلت، بفتح الفاء والصاد مخففة، أي فرقت بين الحق والباطل أو فصل بعضها من بعض باختلاف معانيها، من قوله : فَصَلَتِ الْعِيرُ «١» : أي انفصلت، وفصل من البلد : أي انفصل منه، وانتصب قُرْآناً على أنه حال بنفسه، وهي مؤكدة، لأنها لا تنتقل، أو توطئة للحال بعده، وهي عَرَبِيًّا، أو على المصدر، أي يقرؤه قرآنا عربيا، أو على الاختصاص والمدح. ومن جعله حالا فقيل : ذو الحال آياته، وقيل : كتاب، لأنه وصف بقوله : فُصِّلَتْ آياتُهُ، أو على إضمار فعل تقديره : فصلناه قرآنا، أو مفعول ثان لفصلت، أقوال ستة آخرها للأخفش. ولِقَوْمٍ متعلق بفصلت، أي يعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل، فكأنه فصل لهؤلاء، إذ هم ينتفعون به فخصوا بالذكر تشريفا، ومن لم ينتفع بالتفصيل فكأنه لم يفصل له ويبعد أن يتعلق بتنزيل لكونه وصف في أحد متعلقيه، إن كان من الرحمن في موضع الصفة، أو أبدل منه كتاب، أو كان خبر التنزيل، فيكون في ذلك البدل من الموصول، والإخبار عنه قبل أخذه متعلقه، وهو لا يجوز، وقيل : لقوم في موضع الصفة لقوله : عَرَبِيًّا، أي كائنا لقوم يعلمون ألفاظه ويتحققون أنه لم يخرج عن نمط كلامهم، وكأنه رد على من زعم أن في القرآن ما ليس من كلام العرب. وانتصب بَشِيراً وَنَذِيراً على النعت لقرآنا عربيا، وقيل : حال من آياته. وقرأ زيد بن علي : بشير
__________
(١) سورة يوسف : ١٢/ ٩٤.


الصفحة التالية
Icon