البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٨٥
ونذير برفعهما على الصفة لكتاب، أو على خبر مبتدأ محذوف، وبشارته بالجنة لمن آمن، ونذارته بالنار لمن كفر. فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ : أي أكثر أولئك القوم، أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام، بل أعرضوا، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لإعراضهم عن ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، أو لما لم ينتفع به ولم يقبله جعل كأنه لم يسمعه.
ثم أخبر تعالى عنهم بالمقالة الدالة على امتناع قلوبهم، والناس من رجوعهم إليه ومن سماعهم لما يتلوه، وهو قوله تعالى، حكاية عنهم : وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، تقدم الكلام على شبه ذلك في الأنعام. وقرأ طلحة : وقر بكسر الواو، وهذه تمثيلات لامتناع قبول الحق، كأن قلوبهم في غلاف، كما قالوا : وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «١»، وكأن أسماعهم عند ذكر كلام اللّه بها صمم. والحجاب : الستر المانع من الإجابة، وهو خلاف في الدين، لأنه يعبد اللّه وهم يعبدون الأصنام، قال معناه الفراء وغيره. ويروى أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال : يا محمد، بيننا وبينك حجاب، استهزاء منه.
وقيل : تمثيل بعدم الإجابة. وقيل : عبارة عن العداوة. ومن في مِمَّا تَدْعُونا إليه لابتداء الغاية، وكذا في وَمِنْ بَيْنِنا. فالمعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة المتوسطة لجهتنا وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيها، ولو لم يأت بمن لكان المعنى أن حجابا حاصل وسط الجهتين، والمقصود المبالغة بالتباين المفرط، فلذلك جيء بمن. وقال الزمخشري : فإن قلت : هلا قيل : على قلوبنا أكنة، كما قيل :
وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، ليكون الكلام على نمط واحد؟ قلت : هو على نمط واحد، لأنه لا فرق في المعنى بين قولك : قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ، والدليل عليه قوله تعالى : إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ «٢». ولو قيل : إنا جعلنا قلوبهم في أكنة، لم يختلف المعنى، وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، وتقول : إن في أبلغ في هذا الموضع من على، لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول، لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف، فلا يمكن أن يصل إليها شيء. كما تقول : المال في الكيس، بخلاف قولك : على المال كيس، فإنه لا يدل على الحصر، وعدم الحصول دلالة الوعاء.
وأما في قوله : إِنَّا جَعَلْنا، فهو من أخبار اللّه تعالى، لا يحتاج إلى مبالغة، بخلاف قولهم. وقول الزمخشري : وترى المطابيع، يعني من العرب وشعرائهم، ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب، ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه قالوا : وأحسنه ما جاء
(٢) سورة الكهف : ١٨/ ٥٧.