البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٩١
وللأرض : ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً، كناية عن إيجادهما، فلو سبق إيجاد الأرض على إيجاد السماء لاقتضى إيجاد الموجود بأمره للأرض بالإيجاد، وهو محال، وقد انتهى هذا الإيراد.
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق اللّه السماء قبل الأرض، وتأول قوله : ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ قبل أن يخلق الأرض، فأضمر فيه كان، كما قال تعالى : إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «١» معناه : إن يكن سرق. انتهى. وقال أبو عبد اللّه الرازي : فقدر ثم كان قد استوى جمع بين ضدين، لأن ثم تقتضي التأخر، وكان تقتضي التقدم، فالجمع بينهما يفيد التناقض، ونظيره : ضربت زيدا اليوم، ثم ضربت عمرا أمس. فكما أن هذا باطل، فكذلك ما ذكر يعني من تأويل ثم كان قد استوى، قال :
والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض. وتأويل الآية أن الخلق ليس عبارة عن التكوين، والإيجاد يدل عليه قوله : إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «٢»، وهذا محال، لا يقال للشيء الذي وجد كن، بل الخلق عبارة عن التقدير، وهو في حقه تعالى حكمه أن سيوجد، وقضاؤه بذلك بمعنى خلق الأرض في يومين، وقضاؤه بأن سيحدث كذا، أي مدة كذا، لا يقتضي حدوثه ذلك في الحال، فلا يلزم تقديم إحداث الأرض على إحداث السماء. انتهى.
والذي نقوله : أن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني، وأن ثم لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان، والمهلة كأنه قال : فالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها، ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء، فلا تعرض في الآية لترتيب، أي ذلك وقع الترتيب الزماني له. ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض، ألف الأخبار فيه بثم، فصار كقوله : ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «٣» بعد قوله : فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ «٤». ومن ترتيب الأخبار ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ «٥» بعد قوله : قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ «٦». ويكون قوله تعالى :
فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ، بعد إخباره بما أخبر به، تصويرا لخلقهما على وفق إرادته تعالى، كقولك : أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت إنك عالم صالح؟ فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له. فكذلك أخبر بأنه خلق كيت وكيت، فحد ذلك إيجادا لم يتخلف عن إرادته. ويدل
(٢) سورة آل عمران : ٣/ ٥٩.
(٣) سورة البلد : ٩٠/ ١٧.
(٤) سورة البلد : ٩٠/ ١١.
(٥) سورة الأنعام : ٦/ ١٥٤.
(٦) سورة الأنعام : ٦/ ١٥١. [.....]