البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٩٤
خروج عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى، إذ يصير التقدير : جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل، أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا إن كان الضمير يعود في خلفهم على الرسل لفظا، وهو يعود على رسل أخرى معنى، فكأنه قال : جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين، فيكون كقولهم : عندي درهم ونصفه، أي ونصف درهم آخر، وهذا فيه بعد. وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما، ولوقوعهم على بلادهم في اليمن وفي الحجر، وقال الأفوه الأودي :
أضحوا كقيل بن عنز في عشيرته إذ أهلكت بالذي سدى لها عاد
أو بعده كقدار حين تابعه على الغواية أقوام فقد بادوا
أَلَّا تَعْبُدُوا : يصح أن تكون أن تفسيرية، لأن مجيء الرسل إليهم يتضمن معنى القول، أي جاءتهم مخاطبة وأن تكون مخففة من الثقيلة، أي بأنه لا تعبدوا، والناصبة للمضارع، ووصلت بالنهي كما توصل بإلا، وفي نحو : أَنْ طَهِّرا «١»، وكتبت إليه بأن قم، ولا في هذه الأوجه للنهي. ويجوز على بعد أن تكون لا نافية، وأن ناصبة للفعل، وقاله الحوفي ولم يذكر غيره. ومفعول شاء محذوف، وقدره الزمخشري : لو شاء ربنا إرسال الرسل لأنزل ملائكة. انتهى. وتتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفا إلا من جنس الجواب، نحو قوله تعالى : وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى «٢» : أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، وكذلك : لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «٣»، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً «٤»، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ «٥»، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ «٦»، لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ «٧». قال الشاعر :
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد ولو شاء ربي كنت عمر بن مرثد
وقال الراجز :
واللذ لو شاء لكنت صخرا أو جبلا أشم مشمخرا
فعلى هذا الذي تقرر، لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري، وإنما التقدير :
(٢) سورة الأنعام : ٦/ ٣٥.
(٣) سورة الواقعة : ٥٦/ ٦٥.
(٤) سورة الواقعة : ٥٦/ ٧٠.
(٥) سورة يونس : ١٠/ ٩٩.
(٦) سورة الأنعام : ٦/ ١١٢.
(٧) سورة النحل : ١٦/ ٣٥.