البحر المحيط، ج ٩، ص : ٢٩٩
ولما صدر منها ما صدر من العقلاء، وهي الشهادة، خاطبوها بقولهم : لِمَ شَهِدْتُمْ؟ مخاطبة العقلاء. وقرأ زيد بن علي : لم شهدتن؟ بضمير المؤنثات. وكُلَّ شَيْءٍ : لا يراد به العموم، بل المعنى : كل ناطق بما ذلك له عادة، أو كان ذلك فيه خرق عادة. وقال الزمخشري : أراد بكل شيء : كل شيء من الحيوان، كما أراد به في قوله :
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ «١»، من المقدورات. والمعنى : أن نطقنا ليس بعجب من قدرة اللّه الذي قدر على إنطاق كل حيوان، وعلى خلقكم وإنشائكم، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه، وإنما قالوا لهم : لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا لما تعاظمهم من شهادتها وكبر عليهم من الافتضاح على ألسنة جوارحهم. وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : كيف تشهد عليهم أبصارهم وكيف تنطق؟ قلت : اللّه عز وجل ينطقها، كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما.
انتهى، وهذا الرجل مولع بمذهبه الاعتزالي، يدخله في كل ما يقدر أنه يدخل. وإنما أشار بقوله : كما أنطق الشجرة بأن يخلق فيها كلاما إلى أن اللّه تعالى لم يكلم موسى حقيقة، وإنما الشجرة هي التي سمع منها الكلام بأن يخلق اللّه فيها كلاما خاطبته به عن اللّه تعالى.
والظاهر أن قوله : وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ من كلام الجوارح، قيل : ويحتمل أن يكون من كلام اللّه تعالى توبيخا لهم، أو من كلام ملك يأمره تعاليه. وأَنْ يَشْهَدَ : يحتمل أن يكون معناه : خيفة أو لأجل أن يشهد إن كنتم غير عالمين بأنها تشهد، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ، فانهمكتم وجاهدتم، وإلى هذا نحا مجاهد، والستر يأتي في هذا المعنى، كما قال الشاعر :
والستر دون الفاحشات وما يلقاك دون الخير من ستر
ويحتمل أن يكون معناه : عن أن يشهد، أي وما كنتم تمتنعون، ولا يمكنكم الاختفاء عن أعضائكم والاستتار عنها بكفركم ومعاصيكم، ولا تظنون أنها تصل بكم إلى هذا الحد من الشهادة عليكم، وإلى هذا نحا السدي، أو ما كنتم تتوقعون بالاختفاء والستر أن يشهد عليكم، لأن الجوارح لزيمة لكم. وعبر قتادة عن تستترون بتظنون، أي وما كنتم تظنون أن يشهد، وهذا تفسير من حيث المعنى لا من حيث مرادفة اللفظ، وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً، وهو الخفيات من أعمالكم، وهذا الظن كفر وجهل باللّه وسوء معتقد يؤدي إلى تكذيب الرسل والشك في علم الإله. وَذلِكُمْ : إشارة إلى ظنهم أن اللّه لا يعلم كثيرا من أعمالهم، وهو مبتدأ خبره أَرْداكُمْ، وظَنُّكُمُ بدل من ذلِكُمْ أي

(١) سورة البقرة : ٢/ ٢٨٤.


الصفحة التالية
Icon