البحر المحيط، ج ٩، ص : ٤٥٠
«لا تخرج منه حتى أعود إليك»، ثم افتتح القرآن. وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم تقطعوا تقطع السحاب، فقال لي :«هل رأيت شيئا»؟ قلت : نعم، رجالا سودا مستثفري ثياب بيض، فقال :«أولئك جن نصيبين». وكانوا اثني عشر ألفا، والسورة التي قرأها عليهم : اقرأ باسم ربك. وفي آخر هذا الحديث قلت : يا رسول اللّه، سمعت لهم لغطا، فقال :«إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق». وقد روي عن ابن مسعود أنه لم يحضر أحد ليلة الجن،
واللّه أعلم بصحة ذلك.
فَلَمَّا حَضَرُوهُ : أي القرآن، أي كانوا بمسمع منه، وقيل : حضروا الرسول، وهو التفات من إليك إلى ضمير الغيب. قالُوا أَنْصِتُوا : أي اسكتوا للاستماع، وفيه تأديب مع العلم وكيف يتعلم. وقرأ الجمهور : فَلَمَّا قُضِيَ : مبنيا للمفعول وأبو مجلز، وحبيب بن عبد اللّه بن الزبير : قضى، مبنيا للفاعل، أي قضى محمد ما قرأ، أي أتمه وفرغ منه. وقال ابن عمر، وجابر بن عبد اللّه : قرأ عليهم سورة الرحمن، فكان إذا قال : فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ، قالوا : لا شيء من آيات ربنا نكذب ربنا لك الحمد. وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ : تفرقوا على البلاد ينذرون الجن. قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم.
انتهى. وعند ذلك وقعت قصة سواد بن قارب، وخنافر وأمثالها، حين جاءهما رياهما من الجن، وكان سبب إسلامهما.
مِنْ بَعْدِ مُوسى : أي من بعد كتاب موسى. قال عطاء : كانوا على ملة اليهود، وعن ابن عباس : لم تسمع الجن بأمر عيسى، وهذا لا يصح عن ابن عباس. كيف لا تسمع بأمر عيسى وله أمة عظيمة لا تنحصر على ملته؟ فيبعد عن الجن كونهم لم يسمعوا به.
ويجوز أن يكونوا قالوا : مِنْ بَعْدِ مُوسى تنبيها لقومهم على اتباع الرسول، إذ كان عليه الصلاة والسلام قد بشر به موسى، فقالوا : ذلك من حيث أن هذا الأمر مذكور في التوراة، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من التوراة والإنجيل والكتب الإلهية، إذ كانت كلها مشتملة على التوحيد والنبوة والمعاد، والأمر بتطهير الأخلاق. يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ : أي إلى ما هو حق في نفسه صدق، يعلم ذلك بصريح العقل. وإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ : غاير بين اللفظين، والمعنى متقارب، وربما استعمل أحدهما في موضع لا يستعمل الآخر فيه، فجمع هنا بينهما وحسن التكرار. أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ : هو الرسول، والواسطة المبلغة عنه، وَآمِنُوا بِهِ : يعود على اللّه.