البحر المحيط، ج ٩، ص : ٥١٣
رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إلى الحارث، فاستقبل الحارث البعث وقد فصل من المدينة، فقالوا : هذا الحارث، إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك قال : ولم؟ فقالوا : بعث إليك الوليد، فرجع وزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال : لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيت رسولك، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك خشية أن يكون سخطة من اللّه ورسوله، قال : فنزلت هذه الآية.
وفاسق وبنبإ مطلقان، فيتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل، وتقدم قراءة فتبينوا وفتثبتوا في سورة النساء، وهو أمر يقتضي أن لا يعتمد على كلام الفاسق، ولا يبنى عليه حكم. وجاء الشرط بحرف إن المقتضي للتعليق في الممكن، لا بالحرف المقتضي للتحقيق، وهو إذا، لأن مجيء الرجل الفاسق للرسول وأصحابه بالكذب، إنما كان على سبيل الندرة. وأمروا بالتثبت عند مجيئه لئلا يطمع في قبول ما يلقيه إليهم، ونبا ما يترتب على كلامه. فإذا كانوا بمثابة التبين والتثبت، كف عن مجيئهم بما يريد. أَنْ تُصِيبُوا :
مفعول له، أي كراهة أن يصيبوا، أو لئلا تصيبوا، بِجَهالَةٍ حال، أي جاهلين بحقيقة الأمر معتمدين على خبر الفاسق، فَتُصْبِحُوا : فتصيروا، عَلى ما فَعَلْتُمْ : من إصابة القوم بعقوبة بناء على خبر الفاسق، نادِمِينَ : مقيمين على فرط منكم، متمنين أنه لم يقع. ومفهوم إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ : قبول كلام غير الفاسق، وأنه لا يتثبت عنده، وقد يستدل به على قبول خبر الواحد العدل. وقال قتادة : لما نزلت هذه الآية، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :«التثبت من اللّه والعجلة من الشيطان».
وقال مقلد بن سعيد : هذه الآية ترد علي من قال : إن المسلمين كلهم عدول حتى تثبت الجرحة، لأن اللّه تعالى أمر بالتبين قبل القبول. انتهى. وليس كما ذكر، لأنه ما أمر بالتبيين إلا عند مجيء الفاسق، لا مجيء المسلم، بل بشرط الفسق. والمجهول الحال يحتمل أن يكون فاسقا، فالاحتياط لازم.
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ : هذا توبيخ لمن يكذب للرسول عليه الصلاة والسلام، ووعيد بالنصيحة. ولا يصدر ذلك إلا ممن هو شاك في الرسالة، لأن اللّه تعالى لا يترك نبيه صلى اللّه عليه وسلم يعتمد على خبر الفاسق، بل بين له ذلك. والظاهر أن قوله : وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ كلام تام، أمرهم بأن يعلموا أن الذي هو بين ظهرانيكم هو رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلا تخبروه بما لا يصح، فإنه رسول اللّه يطلعه على ذلك.
ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى اللّه عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه لَعَنِتُّمْ : أي لشق عليكم. وقال مقاتل : لأثمتم. وقال الزمخشري :


الصفحة التالية
Icon