البحر المحيط، ج ٩، ص : ٥٦٩
يَوْمَ يُدَعُّونَ، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيدي الكفار إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم. وقرأ علي وأبو رجاء والسلمي وزيد بن علي : يدعون، بسكون الدال وفتح العين : من الدعاء، أي يقال لهم : هلموا إلى النار، وادخلوها دَعًّا : مدعوعين، يقال لهم : هذِهِ النَّارُ.
لما قيل لهم ذلك، وقفوا بعد ذلك على الجهتين اللتين يمكن دخول الشك في أنها النار، وهي : إما أن يكون سحر يلبس ذات المرئي، وإما أن يكون في نظر الناظر اختلال، فأمرهم بصليها على جهة التقريع. ثم قيل لهم على قطع رجائهم : فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ : عذابكم حتم، فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم، قاله ابن عطية.
وقال الزمخشري : أَفَسِحْرٌ هذا، يعني كنتم تقولون للوحي : هذا سحر.
أَفَسِحْرٌ هذا، يريد : أهذا المصداق أيضا سحر؟ ودخلت الفاء لهذا المعنى. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ : كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، يعني : أم أنتم عمي عن المخبر عنه، كما كنتم عميا عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله :
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ؟ قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه في العاقبة، وبأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب، الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. انتهى. وسحر : خبر مقدم، وهذا : مبتدأ، وسواء : مبتدأ، والخبر محذوف، أي الصبر والجزع. وقال أبو البقاء : خبر مبتدأ محذوف، أي صبركم وتركه سواء.
ولما ذكر حال الكفار، ذكر حال المؤمنين، ليقع الترهيب والترغيب، وهو إخبار عن ما يؤول إليه حال المؤمنين، أخبروا بذلك. ويجوز أن يكون من جملة القول للكفار، إذ ذلك زيادة في غمهم وتنكيد لهم، والأول أظهر. وقرأ الجمهور : فكهين، نصبا على الحال، والخبر في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ. وقرأ خالد : بالرفع على أنه خبر إن، وفي جنات متعلق به. ومن أجاز تعداد الخبر، أجاز أن يكونا خبرين. وَوَقاهُمْ معطوف على فِي جَنَّاتٍ، إذ المعنى : استقروا في جنات، أو على آتاهُمْ، وما مصدرية، أي فكهين بإيتائهم ربهم النعيم ووقايتهم عذاب الجحيم. وجوز أن تكون الواو في ووقاهم واو الحال، ومن شرط قد في الماضي، قال : هي هنا مضمرة، أي وقد وقاهم. وقرأ أبو حيوة :
ووقاهم، بتشديد القاف. كُلُوا وَاشْرَبُوا على إضمار القول : أي يقال لهم : هَنِيئاً.


الصفحة التالية
Icon