البحر المحيط، ج ٩، ص : ٧٣
العام، فكأنهم قالوا : لا ننفق، ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم، وهو الإطعام الذي به يفتخرون، وهذا على سبيل المبالغة. كمن يقول لشخص :
أعط لزيد دينارا، فيقول : لا أعطيه درهما، فهذا أبلغ من لا أعطيه دينارا. والظاهر أن قوله :
إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ من تمام كلام الكفار يخاطبون المؤمنين، أي حيث طلبتم أن تطعموا من لا يريد اللّه إطعامه، إذ لو أراد اللّه إطعامه لأطعمه هو. ويجوز أن يكون من قول اللّه لهم استأنف زجرهم به، أو من قول المؤمنين لهم. ثم حكى تعالى عنهم ما يقولون على سبيل الاستهزاء والتعجيل : لما توعدون به؟ أي متى يوم القيامة الذي أنتم توعدوننا به؟ أو متى هذا العذاب الذي تهددوننا به؟ وهو سؤال على سبيل الاستهزاء منهم لما أمروا بالتقوى، ولا يتقي إلا مما يخاف، وهم غير مؤمنين. سألوا متى يقع هذا الذي تخوفونا به استهزاء منهم.
ما يَنْظُرُونَ
أي ما ينتطرون. ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون، وهم يتخاصمون، أي في معاملاتهم وأسواقهم، في أماكنهم من غير إمهال لتوصية، ولا رجوع إلى أهل. وفي الحديث :«تقوم الساعة والرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتى تقوم، والرجل يخفض ميزانه ويرفعه، والرجل يرفع أكلته إلى فيه، فما تصل إلى فيه حتى تقوم».
وقيل :
لا يرجعون إلى أهلهم قولا وقيل : ولا إلى أهلهم يرجعون أبدا. وقرأ أبي : يختصمون على الأصل والحرميان، وأبو عمرو، والأعرج، وشبل، وابن فنطنطين : بإدغام التاء في الصاد ونقل حركتها إلى الخاء وأبو عمرو أيضا، وقالون : يخالف بالاختلاس وتشديد الصاد، وعنهما إسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصم وباقي السبعة : بكسر الخاء وشد الصاد وفرقة : بكسر الياء اتباعا لكسرة الخاء وشد الصاد. وقرأ ابن محيصن : يرجعون، بضم الياء وفتح الجيم. وقرأ الأعرج : في الصور، بفتح الواو والجمهور : بإسكانها.
وقرىء : من الأجداف، بالفاء بدل الثاء. وقرأ الجمهور : بالثاء، وينسلون، بكسر السين وابن أبي إسحاق، وأبو عمرو : بخلاف عنه بضمها. وهذه النفخة هي الثانية التي يقوم الناس أحياء عنها. ولا تنافر بين يَنْسِلُونَ وبين فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «١»، لأنه لا ينسل إلا قائما، ولأن تفاوت الزمانين يجعله كأنه زمان واحد.

(١) سورة الزمر : ٣٩/ ٦٨.


الصفحة التالية
Icon