البحر المحيط، ج ٩، ص : ٨١
وهو كلام من جنس كلامه الذي كان يتكلم به على طبيعته، من غير صنعة فيه ولا قصد لوزن ولا تكلف. كما يوجد في القرآن شيء موزون ولا يعد شعرا، كقوله تعالى :
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «١». وقوله : فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢». وفي كثير من النثر الذي تنشئه الفصحاء، ولا يسمى ذلك شعرا، ولا يخطر ببال المنشي ولا السامع أنه شعر. وَما يَنْبَغِي لَهُ : أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشعر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسنا، وتقبيح لما ليس قبيحا ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر، كما جعله أميا لا يخط، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض. وقيل : في هذه الآية دلالة على غضاضة الشعر، وقد قال عليه السلام :«ما أنا بشاعر ولا ينبغي لي».
وذهب قوم إلى أنه لا غضاضة فيه، وإنما منعه اللّه نبيه عليه الصلاة والسلام. وإن كان حلية جليلة ليجيء القرآن من قبله أغرب، فإنه لو كان له إدراك الشعر لقيل في القرآن : هذا من تلك القوة. قال ابن عطية :
وليس الأمر عندي كذلك، وقد كان عليه السلام من الفصاحة والبيان في النثر في الرتبة العليا، ولكن كلام اللّه يبين بإعجازه ويندر بوصفه، ويخرجه إحاطة علم اللّه عن كل كلام وإنما منع اللّه نبيه من الشعر ترفيعا له عن ما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول.
وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعر، وهذا كان أسلوب كلامه، عليه السلام، قولا واحدا. انتهى. والضمير في له للرسول، أي وما ينبغي الشعر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم. وأبعد من ذهب إلى أنه عائد على القرآن، أي وما ينبغي الشعر للقرآن، ولم يجر له ذكر، لكن له أن يقول : يدل الكلام عليه، ويبينه عود الضمير عليه في قوله :
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ : أي كتاب سماوي يقرأ في المحاريب، وينال بتلاوته والعمل به ما فيه فوز الدارين. فكم بينه وبين الشعر الذي أكثره من همزات الشياطين؟ وقرأ نافع، وابن عامر : لتنذر بتاء الخطاب للرسول وباقي السبعة : بالياء للغيبة، فاحتمل أن يعود على الرسول، واحتمل أن يعود على القرآن. وقرأ اليماني : لِيُنْذِرَ، بالياء مبينا للمفعول، ونقلها ابن خالويه عن الجحدري. وقال عن أبي السمال واليماني أنهما قرأ :
لينذر، بفتح الياء والذال مضارع نذر بكسر الذال، إذا علم بالشيء فاستعد له. مَنْ كانَ حَيًّا : أي غافلا، قاله الضحاك، لأن الغافل كالميت ويريد به من حتم عليه بالإيمان،

(١) سورة آل عمران : ٣/ ٩٢.
(٢) سورة الكهف : ١٨/ ٢٩.


الصفحة التالية
Icon