البحر المحيط، ج ٩، ص : ٩٨
الجارحة، وليست مرادة هنا. فقيل : استعيرت لجهة الخير، أو للقوة والشدة، أو لجهة الشهوات، أو لجهة التمويه والإغواء وإظهار أنها رشد، أو الحلف. ولكل من هذه الاستعارات وجه.
فأما استعارتها لجهة الخير، فلأن الجارحة أشرف العضوين وأيمنها، وكانوا يتمنون بها حتى في السانح، ويصافحون ويماسحون ويناولون ويزاولون بها أكثر الأمور، ويباشرون بها أفاضل الأشياء، وجعلت لكاتب الحسنات، ولأخذ المؤمن كتابه بها، والشمال بخلاف ذلك. وأما استعارتها للقوة والشدة، فإنها يقع بها البطش، فالمعنى : أنكم تعروننا بقوتكم وتحملوننا على طريق الضلال. وأما استعارتها لجهة الشهوات، فلأن جهة اليمين هي الجهة الثقيلة من الإنسان وفيها كبده، وجهة شماله فيها قلبه ومكره، وهي أخف، والمنهزم يرجع على شقه الأيسر، إذ هو أخف شقيه. وأما استعارتها لجهة التمويه والإغواء، فكأنهم شبهوا أقوال المغوين بالسوانح التي هي عندهم محمودة، كأن التمويه في إغوائهم أظهر ما يحمدونه. وأما الحلف، فإنهم يحلفون لهم ويأتونهم إتيان المقسمين على حسن ما يتبعونهم فيه.
قالُوا، أي المخاطبون، إما الجن وإما قادة الكفر : بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ :
أي لم نقركم على الكفر، بل أنتم من ذواتكم أبيتم الإيمان. وقال الزمخشري : وأعرضتم مع تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوما على الكفر غير ملجئين، وما كان لنا عليكم من تسلط نسلبكم به تمكنكم واختباركم، بل كنتم قوما مختارين الطغيان. انتهى. ولفظة التمكن والاختيار ألفاظ المعتزلة جريا على مذهبهم. فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا : أي لزمنا قول ربنا، أي وعيده لنا بالعذاب. والظاهر أن قوله : إِنَّا لَذائِقُونَ، إخبار منهم أنهم ذائقون العذاب جميعهم، الرؤساء، والأتباع. وقال الزمخشري : فلزمنا قول ربنا : إِنَّا لَذائِقُونَ، يعني وعيد اللّه بأنا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة. ولو حكى الوعيد كما هو لقال : إنكم لذائقون، ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم، لأنهم متكلمون بذلك عن أنفسهم، ونحوه قول القائل :
لقد زعمت هوازن قل مالي ولو حكى قولها لقال : قل مالك، ومنه قول المحلف للحالف. لأخرجن، ولنخرجن الهمزة لحكاية لفظ الحالف، والتاء لإقبال المحلف على الحلف. انتهى. فَأَغْوَيْناكُمْ :
دعوناكم إلى الغي، فكانت فيكم قابلية له فغويتم. إِنَّا كُنَّا غاوِينَ : فأردنا أن تشاركونا