مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٢٠٥
المالكية سبب لإطلاق التصرف، والملكية ليست كذلك فكان المالك أولى. الرابع : إن الملك ملك للرعية، والمالك مالك للعبيد، والعبد أدون حالًا من الرعية، فوجب أن يكون القهر في المالكية أكثر منه في الملكية، فوجب أن يكون المالك أعلى حالًا من الملك، الخامس : أن الرعية يمكنهم إخراج أنفسهم عن كونهم رعية لذلك الملك باختيار أنفسهم، أما المملوك فلا يمكنه إخراج نفسه عن كونه مملوكاً لذلك المالك باختيار نفسه، فثبت أن القهر في المالكية أكمل منه في الملكية. السادس : أن الملك يجب عليه رعاية حال الرعية،
قال عليه الصلاة والسلام / وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته،
ولا يجب على الرعية خدمة الملك. أما المملوك فإنه يجب عليه خدمة المالك وأن لا يستقل بأمر إلا بإذن مولاه، حتى إنه لا يصح منه القضاء والإمامة والشهادة وإذا نوى مولاه السفر يصير هو مسافراً، وإن نوى مولاه الإقامة صار هو مقيماً، فعلمنا أن الانقياد والخضوع في المملوكية أتم منه في كونه رعية، فهذه هي الوجوه الدالة على أن المالك أكمل من الملك.
وحجة من قال أن الملك أولى من المالك وجوه : الأول : أن كل واحد من أهل البلد يكون مالكاً أما الملك لا يكون إلاأعظم الناس وأعلاهم فكان الملك أشرف من المالك. الثاني : أنهم أجمعوا على أن قوله تعالى : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ [الناس : ١، ٢] لفظ الملك فيه متعين، ولولا أن الملك أعلى حالًا من المالك وإلا لم يتعين. الثالث : الملك أولى لأنه أقصر، والظاهر أنه يدرك من الزمان ما تذكر فيه هذه الكلمة بتمامها، بخلاف المالك فإنها أطول، فاحتمل أن لا يجد من الزمان ما يتم فيه هذه الكلمة، هكذا نقل عن أبي عمرو، وأجاب الكسائي بأن قال : إني أشرع في ذكر هذه الكلمة فإن لم أبلغها فقد بلغتها حيث عزمت عليها، نظيره في الشرعيات من نوى صوم الغد قبل غروب الشمس من اليوم في أيام رمضان لا يجزيه، لأنه في هذا اليوم مشتغل بصوم هذا اليوم، فإذا نوى صوم الغد كان ذلك تطويلًا للأمل، أما إذا نوى بعد غروب الشمس فإنه يجزيه، لأنه وإن كان ذلك تطويلًا للأمل إلا أنه خرج عن الصوم بسبب غروب الشمس، ويجوز أن يموت في تلك الليلة، فيقول : إن لم أبلغ ألى اليوم فلا أقل من أكون على عزم الصوم، كذا هاهنا يشرع في ذكر قوله مالك فإن تممها فذاك وإن لم يقدر على إتمامها كان عازماً على الإتمام وهو المراد.
ثم نقول : أنه يتفرع على كونه ملكاً أحكام، وعلى كونه مالكاً أحكام أخر.
أما الأحكام المتفرعة على كونه ملكاً فوجوه : الأول : أن السياسات على أربعة أقسام : سياسة الملاك، وسياسة الملوك، وسياسة الملائكة، وسياسة ملك الملوك : فسياسة الملوك أقوى من سياسة الملاك، لأنه لو اجتمع عالم من المالكين فإنهم لا يقاومون ملكاً واحداً، ألا ترى أن السيد لا يملك إقامة الحد على مملوكه عند أبي حنيفة وأجمعوا على أن الملك يملك إقامة الحدود على الناس، وأما سياسة الملائكة فهي فوق سياسات الملوك، لأن عالماً من أكابر الملوك لا يمكنهم دفع سياسة ملك واحد، وأما سياسة ملك الملوك فإنها فوق سياسات الملائكة، ألا ترى إلى قوله تعالى : يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [النبأ : ٣٨] وقوله تعالى : مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة : ٢٥٥] وقال في صفة الملائكة : وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء : ٢٨] فيا أيها الملوك لا تغتروا بما لكم من المال والملك فإنكم أسراء في قبضة قدرة مالك يوم الدين ويا أيها الرعية إذا كنتم تخافون سياسة الملك أفما تخافون سياسة ملك الملوك الذي هو مالك يوم الدين.