مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٧٥
كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.
الوجه الثاني : في السؤال : أنكم سلمتم كونه تعالى عالما بجميع المعلومات، ووقوع الشيء على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازما عليكم في العلم لزوما لا جواب عنه.
الاستعاذة تبطل قول القدرية :
ثم قال أهل السنة والجماعة قوله :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) يبطل القول بالقدر من وجوه :- الأول : أن المطلوب من قولك :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم) إما أن يكون هو أن يمنع اللّه الشيطان من عمل الوسوسة منعا بالنهي والتحذير، أو على سبيل القهر والجبر، أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من اللّه محالا، لأن تحصيل الحاصل محال، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين، وقد ثبت كونهم مكلفين، أجابت المعتزلة عنه فقالوا : المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، لا يقال : فتلك الألطاف فعل اللّه بأسرها فما الفائدة في الطلب، لأنا نقول : إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو لا أثر فيه، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها ألبتة أثر، فيكون فعلها عبثا محضا.
وذلك في حق اللّه تعالى محال.
الوجه الثاني : أن يقال : إن اللّه تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد، أو لا يكون، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد، أو لا يتوقع، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن اللّه تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه؟ وأما / إذا قيل : إن اللّه تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة باللّه كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.
الوجه الثالث : أن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر، أو يكون قادرا على فعل الشر والخير معا، فإن كان الأول فقد أجبره اللّه على الشر، وذلك يقدح في قولهم : إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير، وإن كان الثاني- وهو أنه قادر على فعل الشر والخير- فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح، وذلك المرجح يكون من اللّه تعالى، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة.
الوجه الرابع : هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان، فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر؟ وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان، وإن قلنا إنه


الصفحة التالية
Icon