مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٧٧
وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم، لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذا باللّه، فالأول : أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال : رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود : ٤٧] فعند هذا أعطاه اللّه خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى : قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ [هود : ٤٨] والثاني : حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال : مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ [يوسف : ٢٣] فأعطاه اللّه تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال : لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ [يوسف : ٢٤] والثالث : قيل له :
فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ [يوسف : ٧٨] فقال : مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يوسف : ٧٩] فأكرمه اللّه تعالى بقوله : وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً، [يوسف : ١٠٠] الرابع : حكى اللّه عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة / قال قومه : أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة : ٦٧] فأعطاه اللّه خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال : فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
، [البقرة : ٧٣] الخامس : أن القوم لما خوفوه بالقتل قال : وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان : ٢٠] وقال في آية أخرى : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر : ٢٧] فأعطاه اللّه تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، والسادس : أن أم مريم قالت :
وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ :[آل عمران : ٣٦] فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله : فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمران : ٣٧] والسابع : أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت : إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا
[مريم : ١٨] فوجدت نعمتين ولدا من غير أب وتنزيه اللّه إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله : إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم : ٣٠] الثامن : أن اللّه تعالى أمر محمدا عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال : وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [المؤمنون : ٩٧، ٩٨] وقال : قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق : ١] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس : ١] والتاسع : قال في سورة الأعراف خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف : ١٩٩، ٢٠٠] وقال في حم السجدة : ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت : ٣٤] إلى أن قال :
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [فصلت : ٣٦] فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبدا في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.
وأما الأخبار فكثيرة : الخبر الأول :
عن معاذ بن جبل قال : استب رجلان عند النبي صلى اللّه عليه وسلم وأغرقا فيه : فقال عليه السلام :«إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله :«أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم»
وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه : الأول : أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جدا، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعا له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملا له على أن يرجع إلى اللّه تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ باللّه.
الثاني : أن الإنسان غير عالم قطعا بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول : أفوض هذه