مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٨٩
للحرف والكلمة في الماهية أو لا؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني- وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات- / فحينئذ يعود السؤال وهو : أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجدانا لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.
واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا : فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال : خالق تلك الحروف والأصوات هو اللّه تعالى : أما القسم الأول- وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان- فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادرا على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني- وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر- فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث- وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل اللّه تعالى.
أما الذين قالوا إن اللّه تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل اللّه تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من اللّه شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى اللّه تعالى.
واعلم أن الثنوية يقولون : للعالم إلهان : أحدهما : خير وعسكره الملائكة، والثاني : شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبدا كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر اللّه، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب.
المسألة الثانية عشرة : من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الأحياء، وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية، ومنهم من أنكر هذه الأحوال، وقال :
أنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.
أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا للّه، فبطلت هذه المذاهب بالكلية.
وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه المقدمات ثلاث : المقدمة الأولى : أن الشيطان جسم، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى اللّه تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة


الصفحة التالية
Icon