مفاتيح الغيب، ج ١، ص : ٩٣
وعرشا لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني : كأن اللّه تعالى يقول : يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟
الثالث : أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال : فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر : ٥٥] ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال : أنا في ذلك اليوم أكون مليكا مقتدرا وعبيدي يكونون ملوكا، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : كأنه تعالى يقول : يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد : لا يا رب، فيقول تعالى : وهل دخلت جنتك؟ فلا بد وأن يقول العبد : نعم يا رب، فيقول تعالى : إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤما مدحورا، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول : إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول اللّه تعالى : العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قويا فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقل :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم).
فإن قيل : فإذا كان القلب بستان اللّه فلما ذا لا يخرج الشيطان منه؟ (قلنا) قال أهل الإشارة : كأنه تعالى يقول للعبد : أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطانا في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم). النكتة التاسعة : كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان، إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقرا بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فاترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل :(أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم). النكتة العاشرة : أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من الناصحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال : فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص : ٨٢، ٨٣] فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.
النكتة الحادية عشرة : إنما قال :(أعوذ باللّه) ولم يذكر اسما آخر، بل ذكر قوله (اللّه) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجرا عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادرا عليما حكيما فقوله :(أعوذ باللّه) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادرا إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بد معها من العلم، وأيضا فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكرا إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعا