مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٧٨
من دوام تلك، دوام كل واحد من الأجزاء المتقومة في هذه الحركة. ولما كان ذلك محالا ثبت أن المؤثر فيها ليس علة موجبة بالذات، بل / فاعلا مختارا. وإذا كان كذلك، وجب كون ذلك الفاعل متقدما على هذه الحركات، وذلك يوجب أن يكون لها بداية. العاشر : أنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له بدليل أنا نعلم بالضرورة أنا لو فرضنا أنفسنا واقفين على طرف الفلك الأعلى فإنا نميز بين الجهة التي تلي قدامنا وبين الجهة التي تلي خلفنا، وثبوت هذا الامتياز معلوم بالضرورة. وإذا كان كذلك ثبت أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وإذا كان كذلك فحصول هذا العالم في هذا الحيز الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن، فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن أجرام السموات والأرضين مختلفة بصفات وأحوال، فكان يجوز في العقل حصول أضدادها ومقابلاتها، فوجب أن لا يحصل هذا الاختصاص الخاص إلا لمرجح ومقدر وإلا فقد ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال.
وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا معنى للخلق إلا التقدير. فلما دل العقل على حصول التقدير من هذه الوجوه العشرة، وجب حصول الخلق من هذه الوجوه العشرة. فلهذا المعنى. قال : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ واللَّه أعلم، ومن الناس من قال المقصود من ذكر السموات والأرض والظلمات والنور التنبيه على ما فيها من المنافع.
واعلم أن منافع السموات أكثر من أن تحيط بجزء من أجزائها المجلدات، وذلك لأن السموات بالنسبة إلى مواليد هذا العالم جارية مجرى الأب والأرض بالنسبة إليها جارية مجرى الأم فالعلل الفاعلة سماوية والعلل القابلة أرضية وبها يتم أمر المواليد الثلاثة. والاستقصاء في شرح ذلك لا سبيل له.
أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ففيه مسائل :
المسألة الأولى : لفظ (جعل) يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشأ كقوله تعالى :
وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف : ١٩] والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين والتصيير كإنشاء شيء من شيء، وتصيير شيء شيئا، ومنه : قوله تعالى : وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [الأعراف : ١٨٩] وقوله وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً [الرعد : ٣٨] وقوله أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص : ٥] وإنما حسن لفظ الجعل هاهنا لأن النور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما إنما تولد من الآخر.
المسألة الثانية : في لفظ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ قولان : الأول : أن المراد منهما الأمران المحسوسان بحس البصر والذي يقوي ذلك أن اللفظ حقيقة فيهما. وأيضا هذان الأمران إذا جعلا مقرونين / بذكر السموات والأرض، فإنه لا يفهم منهما إلا هاتان الكيفيتان المحسوستان والثاني : نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ أي ظلمة الشرك والنفاق والكفر والنور يريد نور الإسلام والإيمان والنبوّة واليقين.
ونقل عن الحسن أنه قال : يعني الكفر والإيمان، ولا تفاوت بين هذين القولين، فكان قول الحسن كالتلخيص لقول ابن عباس. ولقائل أن يقول حمل اللفظ على الوجه الأول أولى، لما ذكرنا أن الأصل حمل اللفظ على حقيقته، ولأن الظلمات والنور إذا كان ذكرهما مقرونا بالسموات والأرض لم يفهم منه إلا ما ذكرناه. قال الواحدي : والأولى حمل اللفظ عليهما معا. وأقول هذا مشكل لأنه حمل اللفظ على مجازه، واللفظ الواحد


الصفحة التالية
Icon