مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٨٠
الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ
وعندي فيه وجه آخر، وهو أن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث، وهما يتولدان من الدم، والدم إنما يتولد من الأغذية، والأغذية إما حيوانية وإما نباتية، فإن كانت حيوانية كان الحال في كيفية تولد ذلك الحيوان كالحال في كيفية تولد الإنسان، فبقي أن تكون نباتية، فثبت أن الإنسان مخلوق من الأغذية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين. وهذا الوجه عندي أقرب إلى الصواب.
إذا عرفت هذا فنقول : هنا الطين قد تولدت النطفة منه بهذا الطريق المذكور، ثم تولد من النطفة أنواع الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل مثل القلب والدماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطة كالعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها، وتولد الصفات المختلفة في المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم وذلك هو المطلوب.
وأما الوجه الثاني : وهو أن يكون المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فنقول لما ثبت أن تخليق بدن الإنسان إنما حصل، لأن الفاعل الحكيم والمقدر الرحيم، رتب حلقة هذه الأعضاء على هذه الصفات المختلفة بحكمته وقدرته، وتلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها، وذلك يدل على صحة القول بالمعاد.
أما قوله تعالى : ثُمَّ قَضى أَجَلًا ففيه مباحث :
المبحث الأول : لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر. قال تعالى : وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء : ٢٣] وبمعنى الخبر والأعلام. قال تعالى : وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ [الإسراء : ٤] وبمعنى صفة الفعل إذا تم. قال تعالى : فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت : ١٢] ومنه قولهم قضى فلان حاجة فلان. وأما الأجل فهو في اللغة عبارة عن الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانقضاء عمره، وأجل الدين محله لانقضاء التأخير فيه وأصله من التأخير يقال أجل الشيء يأجل أجولا، وهو آجل إذا تأخر والآجل نقيض العاجل.
إذا عرفت هذا فقوله ثُمَّ قَضى أَجَلًا معناه أنه تعالى خصص موت كل واحد بوقت معين وذلك التخصيص عبارة عن تعلق مشيئته بإيقاع ذلك الموت في ذلك الوقت. ونظير هذه الآية قوله تعالى : ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ [المؤمنون : ١٥].
وأما قوله تعالى : وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فاعلم أن صريح هذه الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. واختلف المفسرون في تفسيرهما على وجوه : الأول : قال أبو مسلم قوله ثُمَّ قَضى أَجَلًا المراد منه آجال الماضين من الخلق وقوله وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ المراد منه آجال الباقين من الخلق فهو خص هذا الأجل. الثاني : بكونه مسمى عنده، لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، أما الباقون فهم بعد لم يموتوا فلم تصر آجالهم معلومة، فلهذا المعنى قال :
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ والثاني : أن الأجل الأول هو أجل الموت والأجل المسمى عند اللَّه هو أجل القيامة، لأن مدة حياتهم في الآخرة لا آخرة لها ولا انقضاء ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا اللَّه سبحانه وتعالى.


الصفحة التالية
Icon