مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٨٢
قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ ثم يبتدئ فيقول وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ والمعنى أنه سبحانه يعلم سرائركم الموجودة في الأرض فيكون قوله فِي الْأَرْضِ صلة لقوله سِرَّكُمْ هذا تمام كلامهم.
واعلم أنا نقيم الدلالة أولا على أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، وذلك من وجوه : الأول : أنه تعالى قال في هذه السورة قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ [الأنعام : ١٢] فبيّن بهذه الآية أن كل ما في السموات والأرض فهو ملك للَّه تعالى ومملوك له، فلو كان اللَّه أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملكا لنفسه، وذلك محال، ونظير هذه الآية قوله في سورة طه لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما [طه : ٦] فإن قالوا قوله قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ هذا يقتضي أن كل ما في السموات فهو للَّه إلا أن كلمة ما مختصة بمن لا يعقل فلا يدخل فيها ذات اللَّه تعالى.
قلنا : لا نسلم والدليل عليه قوله وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس : ٥- ٧] ونظيره وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ [الكافرون : ٣] ولا شك أن المراد بكلمة ما هاهنا هو اللَّه سبحانه. والثاني : أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ إما أن يكون المراد منه أنه موجود في جميع السموات، أو المراد أنه موجود في سماء واحدة. والثاني : ترك للظاهر والأول : على قسمين لأنه إما أن يكون الحاصل منه تعالى في أحد السموات عين ما حصل منه في سائر السموات أو غيره، والأول : يقتضي حصول المتحيز الواحد في مكانين وهو باطل ببديهة العقل. والثاني : يقتضي كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض وهو محال.
والثالث : أنه لو كان موجودا في السموات لكان محدودا متناهيا وكل ما كان كذلك كان قبوله للزيادة والنقصان ممكنا، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بالمقدار المعين لتخصيص مخصص وتقدير مقدر وكل ما كان كذلك فهو محدث. والرابع : أنه لو كان في السموات فهل يقدر على خلق عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يقدر، والثاني : يوجب تعجيزه والأول : يقتضي أنه تعالى لو فعل ذلك لحصل تحت هذا العالم، والقوم ينكرون كونه تحت العالم / والخامس : أنه تعالى قال : وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد : ٤] وقال : وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق : ١٦] وقال : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ [الزخرف : ٨٤] وقال فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة : ١١٥] وكل ذلك يبطل القول بالمكان والجهة للَّه تعالى، فثبت بهذه الدلائل أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره فوجب التأويل وهو من وجوه : الأول : أن قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يعني وهو اللَّه في تدبير السموات والأرض كما يقال : فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاح مهماته، ونظيره قوله تعالى : وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ والثاني : أن قوله وَهُوَ اللَّهُ كلام تام، ثم ابتدأ وقال : فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ والمعنى إله سبحانه وتعالى يعلم في السموات سرائر الملائكة، وفي الأرض يعلم سرائر الإنس والجن.
والثالث : أن يكون الكلام على التقديم والتأخير والتقدير : وهو اللَّه يعلم في السموات وفي الأرض سركم وجهركم، ومما يقوي هذه التأويلات أن قولنا : وهو اللَّه نظير قولنا هو الفاضل العالم، وكلمة هو إنما تذكر هاهنا لإفادة الحصر، وهذه الفائدة إنما تحصل إذا جعلنا لفظ اللَّه اسما مشتقا فأما لو جعلناه اسم علم شخص قائم مقام التعيين لم يصح إدخال هذه اللفظة عليه، وإذا جعلنا قولنا : اللَّه لفظا مفيدا صار معناه وهو المعبود في السماء وفي الأرض، وعلى هذا التقدير يزول السؤال واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon