مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٩١
الصرفة، والتعليم الكامل هو الذي يبدأ فيه بالأظهر فالأظهر مترقيا إلى الأخفى فالأخفى، فهذا ما يتعلق بوجه النظم.
المسألة الثانية : قوله وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يفيد الحصر والتقدير : هذه الأشياء له لا لغيره، وهذا هو الحق لأن كل موجود فهو إما واجب لذاته، وإما ممكن لذاته، فالواجب لذاته ليس إلا الواحد. وما سوى ذلك الواحد ممكن. والممكن لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، وكل ما حصل بإيجاده وتكوينه كان ملكا له، فثبت أن ما سوى ذلك الموجود الواجب لذاته فهو ملكه ومالكه فلهذا السبب قال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
المسألة الثالثة : في تفسير هذا السكون قولان : الأول : أن المراد منه الشيء الذي سكن بعد أن تحرك، فعلى هذا، المراد كل ما استقر في الليل والنهار من الدواب، وجملة الحيوانات في البر والبحر / وعلى هذا التقدير : قالوا في الآية محذوف والتقدير : وله ما سكن وتحرك في الليل والنهار كقوله تعالى : سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل : ٨١] أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر لأنه يعرف ذلك بالقرينة المذكورة، كذلك هنا حذف ذكر الحركة، لأن ذكر السكون يدل عليه.
والقول الثاني : أنه ليس المراد من هذا السكون ما هو ضد الحركة، بل المراد منه السكون بمعنى الحلول.
كما يقال : فلان يسكن بلد كذا إذا كان محله فيه، ومنه قوله تعالى : وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [إبراهيم : ٤٥] وعلى هذا التقدير : كان المراد، وله كل ما حصل في الليل والنهار. والتقدير : كل ما حصل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا، وهذا التفسير أولى وأكمل. والسبب فيه أن كل ما دخل تحت الليل والنهار حصل في الزمان فقد صدق عليه أنه انقضى الماضي وسيجيء المستقبل، وذلك مشعر بالتغير وهو الحدوث، والحدوث ينافي الأزلية والدوام، فكل ما مرّ به الوقت ودخل تحت الزمان فهو محدث وكل حادث فلا بدّ له من محدث، وفاعل ذلك الفعل يجب أن يكون متقدما عليه والمتقدم على الزمان يجب أن يكون مقدما على الوقت والزمان فلا تجري عليه الأوقات ولا تمر به الساعات ولا يصدق عليه أنه كان وسيكون.
واعلم أنه تعالى لما بيّن فيما سبق أنه مالك للمكان وجملة المكانيات ومالك للزمان وجملة الزمانيات، بين أنه سميع عليم يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين. والمقصود منه الرد على من يقول الإله تعالى موجب بالذات، فنبّه على أنه وإن كان مالكا لكل المحدثات لكنه فاعل مختار يسمع ويرى ويعلم السر وأخفى، ولما قرر هذه المعاني قال : قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.
واعلم أنه فرق بين أن يقال أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا وبين أن يقال : أتخذ غير اللَّه وليا لأن الإنكار إنما حصل على اتخاذ غير اللَّه وليا، لا على اتخاذ الولي، وقد عرفت أنهم يقدمون الأهم فالأهم الذي هم بشأنه أعنى فكأن قوله قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا أولى من العبارة الثانية، ونظيره قوله تعالى : أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر : ٦٤] وقوله تعالى : آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ [يونس : ٥٩].
ثم قال : فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقريء فاطِرِ السَّماواتِ بالجر صفة للَّه وبالرفع على إضمار «هو» والنصب على المدح. وقرأ الزهري فطر السماوات وعن ابن عباس : ما عرفت فاطِرِ السَّماواتِ حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما : أنا فطرتها أي ابتدأتها وقال ابن الأنباري : أصل الفطر شق الشيء عند ابتدائه، فقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يريد خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق


الصفحة التالية
Icon