مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٤٩٦
لتخصيص مخصص، فيكون محدثا أو يكون متناهيا من بعض الجوانب دون البعض، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الجانب الموصوف بكونه غير متناه وذلك يوجب القسمة والتجزئة. والثالث : إما أن يفسر المكان بالسطح الحاوي أو بالبعد والخلاء. فإن كان الأول : فنقول أجسام العالم متناهية فخارج العالم لا خلا ولا ملا ولا مكان ولا حيث ولا جهة، فيمتنع حصول ذات اللَّه تعالى فيه. وإن كان الثاني فنقول الخلاء متساوي الأجزاء في حقيقته وإذا كان كذلك، فلو صحّ حصول اللَّه في جزء من أجزاء ذلك الخلاء لصح حصوله في سائر الأجزاء، ولو كان كذلك لكان حصوله فيه بتخصيص مخصص، وكل ما كان واقعا بالفاعل المختار فهو محدث، فحصول ذاته، وذلك أن اللَّه تعالى بيّن كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين على حبه، فأعلم في هذه الآية أنه لم يكن افتتانهم بشركهم وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤا منه وتباعدوا عنه، فحلفوا أنهم ما كانوا مشركين :
ومثاله أن ترى إنسانا يحب عاريا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه، فيقال له ما كانت محبتك لفلان، إلا أن انتفيت منه فالمراد بالفتنة هاهنا افتتانهم بالأوثان، ويتأكد هذا الوجه بما روى عطاء عن ابن عباس :
أنه قال ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ معناه شركهم في الدنيا، وهذا القول راجع إلى حذف المضاف لأن المعنى ثم لم تكن عاقبة فتنتهم إلا البراءة، ومثله قولك ما كانت محبتك لفلان، إلا أن فررت منه وتركته.
المسألة الثالثة : ظاهر الآية يقتضي : أنهم حلفوا في القيامة على أنهم ما كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقدامهم على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان : الأول : وهو قول أبي علي الجبائي، والقاضي : أن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتجا عليه بوجوه : الأول : ن أهل القيامة يعرفون اللَّه تعالى بالاضطرار، إذ لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دار التكليف، وذلك باطل، وإذا كانوا عارفين باللَّه على سبيل الاضطرار، وجب أن يكونوا ملجئين إلى أن لا يفعلوا القبيح بمعنى أنهم يعلمون أنهم لو راموا فعل القبيح لمنعهم اللَّه منه لأن مع زوال التكليف لو لم يحصل هذا المعنى لكان ذلك إطلاقهم في فعل القبيح، وأنه لا يجوز، فثبت أن أهل القيامة يعلمون اللَّه بالاضطرار، وثبت أنه متى كان كذلك كانوا ملجئين إلى ترك القبيح، وذلك يقتضي أنه لا يقدم أحد من أهل القيامة على فعل القبيح.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه لا يجوز منهم فعل القبيح، إذا كانوا عقلاء إلا أنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : إنه وقع منهم هذا الكذب لأنهم لما عاينوا أهوال القيامة اضطربت عقولهم، فقالوا : هذا القول الكذب عند اختلال عقولهم، أو يقال : إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا.
والجواب عن الأول : أنه تعالى لا يجوز أن يحشرهم : ويورد عليهم التوبيخ بقوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ [الأنعام : ٢٢] ثم يحكي عنهم ما يجري مجرى الاعتذار مع أنهم غير عقلاء، لأن هذا لا يليق بحكمة اللَّه تعالى، وأيضا فالمكلفون لا بد وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة، ليعلموا أنهم بما يعاملهم اللَّه به غير مظلومين.
والجواب عن الثاني : أن النسيان : لما كانوا عليه في دار الدنيا مع كمال العقل بعيد لأن العاقل لا يجوز أن ينسى مثل هذه الأحوال، وإن بعد العهد، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور ولولا أن الأمر كذلك لجوزنا


الصفحة التالية
Icon