مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٠٥
تعالى منع الكفار عن الإيمان لكان لهم أن يقولوا للرسول لما حكم اللَّه تعالى بأنه منعنا من الإيمان فلم يذمنا على ترك الإيمان، ولم يدعونا إلى فعل الإيمان؟ الثاني : أنه تعالى لو منعهم من الإيمان ثم دعاهم إليه لكان ذلك تكليفا للعاجز وهو منفي بصريح العقل وبقوله تعالى : لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة : ٢٨٦] الثالث : أنه تعالى حكى صريح هذا الكلام عن الكفار في معرض الذم فقال تعالى : وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت : ٥] وقال في آية أخرى وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ [البقرة : ٨٨] وإذا كان قد حكى اللَّه تعالى هذا المذهب عنهم في معرض الذم لهم امتنع أن يذكره هاهنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلا لزم التناقض. والرابع : أنه لا نزاع أن القوم كانوا يفهمون ويسمعون ويعقلون.
والخامس : أن هذه الآية وردت في معرض الذم لهم على ترك الإيمان ولو كان هذا الصد والمنع من قبل اللَّه تعالى لما كانوا مذمومين بل كانوا معذورين. والسادس : أن قوله حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يدل على أنهم كانوا يفقهون ويميزون الحق من الباطل، وعند هذا قالوا لا بد من التأويل وهو من وجوه : الأول : قال الجبائي إن القوم كانوا يستمعون لقراءة الرسول صلى اللَّه عليه وسلم ليتوسلوا بسماع قراءته إلى معرفة مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه فعند ذلك كان اللَّه سبحانه وتعالى يلقي على قلوبهم النوم، وهو المراد من الأكنة، ويثقل أسماعهم عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النوم، وهو المراد من قوله وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً والثاني : أن الإنسان الذي علم اللَّه منه أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر فإنه تعالى يسم قلبه بعلامة مخصوصة يستدل الملائكة برؤيتها على أنه لا يؤمن، فصارت تلك العلامة دلالة على أنهم لا يؤمنون.
وإذا ثبت هذا فنقول : لا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان والغطاء المانع، مع أن تلك العلامة في نفسها ليست مانعة عن الإيمان.
والتأويل الثالث : أنهم لما أصروا على الكفر وعاندوا وصمموا عليه، فصار عدولهم عن الإيمان والحالة هذه كالكنان المانع عن الإيمان، فذكر اللَّه تعالى الكنان كناية عن هذا المعنى.
والتأويل الرابع : أنه تعالى لما منعهم الألطاف التي إنما تصلح أن تفعل بمن قد اهتدى فأخلاهم منها، وفوض أمرهم إلى أنفسهم لسوء صنيعهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه فيقول وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً.
والتأويل الخامس : أن يكون هذا الكلام ورد حكاية لما كانوا يذكرونه من قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت : ٥].
والجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في بيان أنه لا يمكن حمل الكنان والوقر على أن اللَّه تعالى منعهم عن الإيمان، وهو أن نقول : بل البرهان العقلي الساطع قائم على صحة هذا المعنى، وذلك لأن العبد الذي أتى بالكفر إن لم يقدر على الإتيان بالإيمان، فقد صح قولنا إنه تعالى هو الذي حمله على الكفر وصده عن الإيمان.
وأما إن قلنا : إن القادر على الكفر كان قادرا على الإيمان فنقول : يمتنع صيرورة تلك القدرة مصدرا للكفر دون الإيمان، إلا عند انضمام تلك الداعية، وقد عرفت في هذا الكتاب أن مجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، فيكون الكفر على هذا التقدير من اللَّه تعالى، وتكون تلك الداعية الجارة إلى الكفر كنانا للقلب عن الإيمان، ووقرا للسمع عن استماع دلائل الإيمان، فثبت بما ذكرنا أن البرهان العقلي مطابق لما دل عليه ظاهر هذه الآية.


الصفحة التالية
Icon