مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥١٠
إزالة جميع وجوه التقصيرات. ومعلوم أن الكفار قصروا في دار الدنيا فهم يتمنون العود إلى الدنيا لتدارك تلك التقصيرات، وذلك التدارك لا يحصل بالعود إلى الدنيا فقط، ولا بترك التكذيب، ولا بعمل الإيمان بل إنما يحصل التدارك بمجموع هذه الأمور الثلاثة فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني.
فإن قيل : كيف يحسن منهم تمني الرد مع أنهم يعلمون أن الرد يحصل لا ألبتة.
والجواب من وجوه : الأول : لعلّهم لم يعلموا أن الرد لا يحصل. والثاني : أنهم وإن علموا أن ذلك لا يحصل إلا أن هذا العلم لا يمنع من حصول إرادة الرد كقوله تعالى : يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ [المائدة : ٣٧] وكقوله أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ [الأعراف : ٥٠] فلما صح أن يريدوا هذه الأشياء مع العلم بأنها لا تحصل، فبأن يتمنوه أقرب، لأن باب التمني أوسع، لأنه يصح أن يتمنى ما لا يصح أن يريد من الأمور الثلاثة الماضية.
ثم قال تعالى : بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى بَلْ هاهنا رد كلامهم، والتقدير : أنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا، وترك التكذيب، وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان، بل لأجل خوفهم من العقاب الذي شاهدوه وعاينوه. وهذا يدل على أن الرغبة في الإيمان والطاعة لا تنفع إلا إذا كانت تلك الرغبة رغبة فيه، لكونه إيمانا وطاعة، فأما الرغبة فيه لطلب الثواب، والخوف من العقاب فغير مفيد.
المسألة الثانية : المراد من الآية : أنه ظهر لهم في الآخرة ما أخفوه في الدنيا. وقد اختلفوا في ذلك الذي أخفوه على وجوه : الأول : قال أبو روق : إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فينطق اللَّه جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل.
قال الواحدي : وعلى هذا القول أهل التفسير. الثاني :/ قال المبرد : بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك لأن كفرهم ما كان باديا ظاهرا لهم، لأن مضار كفرهم كانت خفية، فلما ظهرت يوم القيامة لا جرم قال اللَّه تعالى : بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الثالث : قال الزجاج : بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء عنهم من أمر البعث والنشور. قال والدليل على صحة هذا القول أنه تعالى ذكر عقيبه وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [الأنعام : ٢٩] وهذا قول الحسن. الرابع : قال بعضهم : هذه الآية في المنافقين، وقد كانوا يسرون الكفر ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وظهر بأن عرف غيرهم أنهم كانوا من قبل منافقين. الخامس : قيل بدا لهم ما كان علماؤهم يخفون من جحد نبوّة الرسول ونعته وصفته في الكتب والبشارة به، وما كانوا يحرفونه من التوراة مما يدل على ذلك.
واعلم أن اللفظ محتمل لوجوه كثيرة. والمقصود منها بأسرها أنه ظهرت فضيحتهم في الآخرة وانهتكت أستارهم. وهو معنى قوله تعالى : يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق : ٩].
ثم قال تعالى : وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ والمعنى أنه تعالى لو ردهم لم يحصل منهم ترك التكذيب وفعل الإيمان، بل كانوا يستمرون على طريقتهم الأولى في الكفر والتكذيب.
فإن قيل : إن أهل القيامة قد عرفوا اللَّه بالضرورة، وشاهدوا أنواع العقاب والعذاب فلو ردهم اللَّه تعالى


الصفحة التالية
Icon