مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥١٣
المطلوب فنى أيضا وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء. فكان هذا هو الخسران المبين. وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكرا للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية. أما من كان مؤمنا بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر بهذه السعادات الجسمانية، ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء اللَّه وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسرانا مبينا وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد.
والنوع الثاني من وجوه : خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الإقبال على اللَّه تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضا في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها، فمن كان منكرا للبعث والقيامة، فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة، ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا، فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات، وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم. فالأول : هو المراد من قوله قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها والثاني : هو المراد من قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ فهذا تقرير المقصود من هذه الآية.
المسألة الثانية : المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة، وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة : ٤٦] وإنما حسنت هذه الكناية لأن موقف القيامة موقف لا حكم / فيه لأحد إلا للَّه تعالى، ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا للَّه. وقوله حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً اعلم أن كلمة (حتى) غاية لقوله كَذَّبُوا لا لقوله قَدْ خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى (حتى) هاهنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة.
فإن قيل : إنما يتحسرون عند موتهم.
قلنا : لما كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك
قال عليه السلام :«من مات فقد قامت قيامته»
والمراد بالساعة القيامة، وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه :
الأول : أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل : ما هي إلا ساعة الحساب. الثاني : الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا اللَّه تعالى. ألا ترى أنه تعالى قال : بَغْتَةً والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى : أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها، وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله بَغْتَةً انتصابه على الحال بمعنى : باغتة أو على المصدر كأنه قيل : بغتتهم الساعة بغتة. ثم قال تعالى : قالُوا يا حَسْرَتَنا قال الزجاج : معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى : يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ [يس : ٣٠] ويا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر : ٥٦] يا وَيْلَتى أَأَلِدُ [هود : ٧٢]


الصفحة التالية
Icon