مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥١٦
يخفونها، ولذلك كان العقلاء عند الاشتغال بالوقاع يختفون ولا يقدمون على هذه الأفعال بمحضر من الناس.
وذلك يدل على أن هذه الأفعال لا توجب الشرف بل النقص، ومما يدل على ذلك أيضا أن الناس إذا شتم بعضهم بعضا لا يذكرون فيه إلا الألفاظ الدالة على الوقاع، ولولا أن تلك اللذة من جنس النقصانات، وإلا لما كان الأمر كذلك، ومما يدل عليه أن هذه اللذات ترجع حقيقتها إلى دفع الآلام، ولذلك فإن كل من كان أشد جوعا وأقوى حاجة كان التذاذه بهذه الأشياء أكمل له وأقوى، وإذا كان الأمر كذلك ظهر أنه لا حقيقة لهذه اللذات في نفس الأمر. ومما يدل عليه أيضا أن هذه اللذات سريعة الاستحالة سريعة الزوال سريعة الانقضاء.
فثبت بهذه الوجوه الكثيرة خساسة هذه اللذات. وأما السعادات الروحانية فإنها سعادات شريفة عالية باقية مقدسة، ولذلك فإن جميع الخلق إذا تخيلوا في الإنسان كثرة العلم وشدة الانقباض عن اللذات الجسمانية، فإنهم بالطبع يعظمونه ويخدمونه ويعدون أنفسهم عبيدا لذلك الإنسان وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يدل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية.
الوجه الثاني : في بيان أن خيرات الآخرة أفضل من خيرات الدنيا، هو أن نقول : هب أن هذين النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة، إلا أن الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد القيامة معلوم قطعا. وأما الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد الدنيا فغير معلوم بل ولا مظنون، فكم من سلطان قاهر في بكرة اليوم صار تحت التراب في آخر ذلك اليوم، وكم من أمير كبير أصبح في / الملك والإمارة، ثم أمسى أسيرا حقيرا، وهذا التفاوت أيضا يوجب المباينة بين النوعين.
الوجه الثالث : هب أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوما آخر في الدنيا، إلا أنه لا يدري هل يمكنه الانتفاع بما جمعه من الأموال والطيبات واللذات أم لا؟ أما كل ما جمعه من موجبات السعادات، فإنه يعلم قطعا أنه ينتفع به في الدار الآخرة.
الوجه الرابع : هب أنه ينتفع بها إلا أن انتفاعه بخيرات الدنيا لا يكون خاليا عن شوائب المكروهات، وممازجة المحرمات المخوفات. ولذلك
قيل : من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. فقيل : وما هو يا رسول اللَّه؟ قال :«سرور يوم بتمامه».
الوجه الخامس : هب أنه ينتفع بتلك الأموال والطيبات في الغد، إلا أن تلك المنافع منقرضة ذاهبة باطلة، وكلما كانت تلك المنافع أقوى وألذ وأكمل وأفضل كانت الأحزان الحاصلة عند انقراضها وانقضائها أقوى وأكمل كما قال الشاعر المتنبي :
أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا
فثبت بما ذكرنا أن سعادات الدنيا وخيراتها موصوفة بهذه العيوب العظيمة، والنقصانات الكاملة، وسعادات الآخرة مبرأة عنها، فوجب القطع بأن الآخرة أكمل وأفضل وأبقى وأتقى وأحرى وأولى.
المسألة الثانية : قرأ ابن عامر ولدار الآخرة بإضافة الدار إلى الآخرة، والباقون وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ على جعل الآخرة نعتا للدار. أما وجه قراءة ابن عامر فهو أن الصفة في الحقيقة مغايرة للموصوف فصحت الإضافة من هذا الوجه، ونظيره قولهم بارحة الأولى، ويوم الخميس وحق اليقين، وعند البصريين لا تجوز هذه


الصفحة التالية
Icon