مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥١٩
بألسنتهم وظاهر قولهم وهذا غير مستبعد ونظيره قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل : ١٤].
الوجه الثاني : في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك أنت كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل والزمان المديد وما وجدوا منك كذبا ألبتة وسموك بالأمين فلا يقولون فيك إنك كاذب ولكن جحدوا صحة نبوّتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجله تخيل من نفسه كونه رسولا من عند اللَّه، وبهذا التقدير : لا ينسبونه إلى الكذب أو لأنهم قالوا : إنه ما كذب في سائر الأمور، بل هو أمين في كلها إلا في هذا الوجه الواحد.
الوجه الثالث : في التأويل : أنه لما ظهرت المعجزات القاهرة على وفق دعواه، ثم إن القوم أصروا على التكذيب فاللَّه تعالى قال له إن القوم ما كذبوك، وإنما كذبوني، ونظيره أن رجلا إذا أهان عبدا لرجل آخر، فقال هذا الآخر : أيها العبد إنه ما أهانك، وإنما أهانني : وليس المقصود منه نفي الإهانة عنه بل المقصود تعظيم الأمر وتفخيم الشأن. وتقريره : أن إهانة ذلك العبد جارية مجرى إهانته، ونظيره قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح : ١٠].
والوجه الرابع : في التأويل وهو كلام خطر بالبال، هو أن يقال المراد من قوله فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا، وهو المراد من قوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ والمراد أنهم يقولون في كل معجزة إنها سحر وينكرون دلالة المعجزة على الصدق على الإطلاق فكان التقدير : إنهم لا يكذبونك على التعيين بل القوم يكذبون جميع الأنبياء والرسل، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٤]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤)
في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى أزال الحزن عن قلب رسوله في الآية الأولى بأن بين أن تكذيبه يجري مجرى تكذيب اللَّه تعالى فذكر في هذه الآية طريقا آخر في إزالة الحزن عن قلبه وذلك بأن بين أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثل هذه المعاملة، وأن أولئك الأنبياء صبروا على تكذيبهم وإيذائهم حتى أتاهم النصر والفتح والظفر فأنت أولى بالتزام هذه الطريقة لأنك مبعوث إلى جميع العالمين، فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا.
ثم أكد وقوى تعالى هذا الوعد بقوله ولا مبدل لكلمات اللَّه يعني أن وعد اللَّه إياك بالنصر حق وصدق، ولا يمكن تطرق الخلف والتبديل إليه ونظيره قوله تعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ [الصفات : ١٧١] وقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة : ٢١] وبالجملة فالخلف في كلام اللَّه تعالى محال وقوله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمرنا قومهم. قال الأخفش (من) هاهنا صلة، كما تقول أصابنا من مطر. وقال غيره : لا يجوز ذلك لأنها لا تزاد في الواجب، وإنما تزاد مع النفي كما تقول : ما أتاني من أحد، وهي هاهنا للتبعيض، فإن الواصل إلى الرسول عليه السلام قصص بعض الأنبياء لا قصص كلهم كما قال تعالى : مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر : ٧٨] وفاعل (جاء) مضمر أضمر


الصفحة التالية
Icon