مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٢١
هناك من حشمة الجمع العظيم، وهذا الرجل علم أنه لو هم بقتل ذلك السلطان لقتلوه في الحال، فإن هذا العلم يصير مانعا له من قصد قتل ذلك السلطان، ويكون ذلك سببا لكونه ملجأ إلى ترك ذلك الفعل فكذا هاهنا.
إذا عرفت الإلجاء فنقول : إنه تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم فيكون ما يقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة إلى الثواب، وذلك لا يكون إلا اختيارا.
والجواب : أنه تعالى أراد منهم الاقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر على السوية أو حال حصول هذا الرجحان. والأول : تكليف ما لا يطاق، لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء، تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني : فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيار، فسقط قولهم بالكلية. واللَّه أعلم.
المسألة الثالثة : قوله تعالى في آخر الآية فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ نهي له عن هذه الحالة، وهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كما أن قوله وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ [الأحزاب : ٤٨] لا يدل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم أطاعهم وقبل دينهم، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تحسرك على تكذيبهم، ولا يجوز أن تجزع من إعراضهم عنك فإنك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصود من تغليظ الخطاب التبعيد والزجر له عن مثل هذه الحالة. واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٣٦]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)
اعلم أنه تعالى بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان ولا يتركون الكفر فقال : إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ يعني أن الذين تحرص على أن يصدقوك بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون، وإنما يستجيب من يسمع، كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل : ٨٠] قال علي بن عيسى : الفرق بين يستجيب ويجيب، أن يستجيب في قبوله لما دعي إليه، وليس كذلك يجيب لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل : أتوافق في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب : أخالف.
وأما قوله وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ففيه قولان : الأول : أنه مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة، والمراد : أنه تعالى هو القادر على أن يبعث الموتى من القبور يوم القيامة ثم إليه يرجعون للجزاء، فكذلك هاهنا أنه تعالى هو القادر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر عليه.
والقول الثاني : أن المعنى : وهؤلاء الموتى يعني الكفرة يبعثهم اللَّه ثم إليه يرجعون، فحينئذ يسمعون وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى استماعهم، وقريء يرجعون بفتح الياء. وأقول : لا شك أن الجسد الخالي عن الروح يظهر منه النتن والصديد والقيح وأنواع العفونات، وأصلح أحواله أن يدفن تحت التراب، وأيضا الروح الخالية عن العقل يكون صاحبها مجنونا يستوجب القيد والحبس والعقل بالنسبة إلى الروح كالروح بالنسبة إلى الجسد، وأيضا العقل بدون معرفة اللَّه تعالى وصفاته وطاعته كالضائع الباطل، فنسبة التوحيد والمعرفة إلى العقل كنسبة العقل إلى الروح، ونسبة الروح إلى الجسد فمعرفة اللَّه ومحبته روح روح الروح فالنفس الخالية عن


الصفحة التالية
Icon