مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٢٨
اللَّه فقال عليه السلام :«و الذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب اللَّه» ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت.
قال الواحدي : وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى اللَّه عليه وسلم فهو عين كتاب اللَّه.
وأقول : هذا المثال حق، لأنه تعالى قال : لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل : ٤٤] وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلا تحت هذه الآية، فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة، وأن خبر الواحد حجة، وأن القياس حجة، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة، كان في الحقيقة ثابتا بالقرآن، فعند هذا يصح قوله تعالى : ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ هذا تقرير هذا القول، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء. ولقائل أن يقول : حاصل هذه الوجه أن القرآن لما دلّ على خبر الواحد والقياس حجة، فكل حكم ثبت بأحد هذين الأصلين كان في الحقيقة قد ثبت بالقرآن إلا أنا نقول : حمل قوله ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ على هذا الوجه لا يجوز لأن قوله ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ذكر في معرض تعظيم هذا الكتاب والمبالغة في مدحه والثناء عليه، ولو حملنا هذه الآية على هذا المعنى لم يحصل منه ما يوجب التعظيم، وذلك لأنا لو فرضنا أن اللَّه تعالى قال : اعلموا بالإجماع وخبر الواحد والقياس، كان المعنى الذي ذكروه حاصلا من هذا اللفظ والمعنى الذي يمكن تحصيله من هذا اللفظ القليل لا يمكن جعله واجبا لمدح القرآن والثناء عليه لسبب اشتمال القرآن عليه، لأن هذا إنما يوجب المدح العظيم والثناء التام لو لم يمكن تحصيله بطريق آخر أشد اختصارا منه، فأما لما بينا أن هذا القسم المقصود يمكن حمله وتحصيله باللفظ المختصر الذي ذكرناه علمنا أنه لا يمكن ذكره في تعظيم القرآن، فثبت أن هذه الآية مذكورة في معرض تعظيم القرآن، وثبت أن المعنى الذي ذكروه لا يفيد تعظيم القرآن، فوجب أن يقال إنه لا يجوز حمل هذه الآية على هذا المعنى، فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا القول.
والقول الثاني : في تفسير هذه الآية قول من يقول : القرآن واف ببيان جميع الأحكام وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لا بدّ فيه من دليل منفصل والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي مثلا للَّه تعالى ألف تكليف على العباد وذكره في القرآن وأمر محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف إلى العباد. ثم قال بعده ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ فكان معناه أنه ليس للَّه على الخلق بعد ذلك الألف تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة : ٣] وبقوله :
وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام : ٥٩] فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه. واللَّه أعلم.
ولنرجع الآن إلى التفسير، فنقول : قوله مِنْ شَيْءٍ قال الواحدي (من) زائدة كقوله : ما جاء لي من أحد. وتقريره ما تركنا في الكتاب شيئا لم نبينه. وأقول : كلمة (من) للتبعيض فكان المعنى ما فرطنا في الكتاب بعض شيء يحتاج المكلف إليه. وهذا هو نهاية المبالغة في أنه تعالى ما ترك شيئا مما يحتاج المكلف إلى معرفته في هذا الكتاب.
أما قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فالمعنى أنه تعالى يحشر الدواب والطيور يوم القيامة. ويتأكد هذا بقوله


الصفحة التالية
Icon