مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٣٤
فإن قيل : أليس قوله بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ يدل على أنهم تضرعوا؟ وهاهنا يقول : قست قلوبهم ولم يتضرعوا.
قلنا : أولئك أقوام، وهؤلاء أقوام آخرون. أو نقول أولئك تضرعوا لطلب إزالة البلية ولم يتضرعوا على سبيل الإخلاص للَّه تعالى فلهذا الفرق حسن النفي والإثبات.
ثم قال تعالى : فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي التضرع. والتقدير فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. وذكر كلمة (لو لا) يفيد أنه ما كان لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم وقسوتهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم واللَّه أعلم.
المسألة الثانية : احتج الجبائي بقوله لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فقال : هذا يدل على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم، وإنما سلّط البأساء والضرّاء عليهم، لا رادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، وذلك يدل على أنه تعالى أراد الإيمان والطاعة من الكل.
والجواب : أن كلمة (لعل) تفيد الترجي والتمني وذلك في حق اللَّه تعالى محال وأنتم حملتموه على إرادة هذا المطلوب، ونحن نحمله على أنه تعالى عاملهم معاملة لو صدرت عن غير اللَّه تعالى لكان المقصود منه هذا المعنى، فأما تعليل حكم اللَّه تعالى ومشيئته فذلك محال على ما ثبت بالدليل. ثم نقول إن دلت هذه الآية على قولكم من هذا الوجه فإنها تدل على ضد قولكم من وجه آخر، وذلك لأنها تدل على أنهم إنما لم يتضرعوا لقسوة قلوبهم ولأجل أن الشيطان زين لهم أعمالهم.
فنقول : تلك القسوة إن حصلت بفعلهم احتاجوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل، وإن حصلت بفعل اللَّه فالقول قولنا، وأيضا هب أن الكفار إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح بسبب تزيين الشيطان، إلا أنا نقول : ولم بقي الشيطان مصرا على هذا الفعل القبيح؟ فإن كان ذلك لأجل شيطان آخر تسلسل إلى غير النهاية، وإن بطلت هذه المقادير انتهت بالآخرة إلى أن كل أحد إنما يقدم تارة على الخير وأخرى على الشر، لأجل الدواعي التي تحصل في قلبه، ثم ثبت أن تلك الدواعي لا تحصل إلا بإيجاد اللَّه تعالى فحينئذ يصح قولنا ويفسد بالكلية قولهم، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : الآيات ٤٤ إلى ٤٥]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥)
اعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبيّن اللَّه تعالى أنه أخذهم أولا بالبأساء والضراء لكي يتضرعوا ثم بيّن في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم / أبواب كل شيء، ونقلناهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء، والمقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلم ينتفعوا به أيضا. وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة


الصفحة التالية
Icon