مفاتيح الغيب، ج ١٢، ص : ٥٣٩
الحكم الأول :
أن هذا النص يدل على أنه صلى اللَّه عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام وأنه ما كان يجتهد بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم : ٣، ٤].
الحكم الثاني :
ان نفاة القياس قالوا : ثبت بهذا النص انه عليه السلام ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، لقوله تعالى : فَاتَّبِعُوهُ [سبأ : ٢٠] وذلك ينفي جواز العمل بالقياس، ثم أكد هذا الكلام بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى عمل البصير.
ثم قال : أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين وأن لا يكون غافلا عن معرفته، واللَّه أعلم.
[سورة الأنعام (٦) : آية ٥١]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٥١)
اعلم أنه تعالى لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين، أمر الرسول في هذه الآية بالإنذار فقال :
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى :(الإنذار) الأعلام بموضع المخافة وقوله بِهِ قال ابن عباس والزجاج بالقرآن. والدليل عليه قوله تعالى قبل هذه الآية إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام : ٥٠] وقال الضحاك وَأَنْذِرْ بِهِ أي باللَّه، والأول أولى، لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وبالكلام لا بذات اللَّه تعالى.
وأما قوله الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ ففيه أقوال : الأول : أنهم الكافرون الذين تقدم ذكرهم، وذلك لأنه صلى اللَّه عليه وسلم كان يخوفهم من عذاب الآخرة، وقد كان بعضهم يتأثر من ذلك التخويف، ويقع في قلبه أنه ربما كان الذي يقوله محمد حقا، فثبت أن هذا الكلام لائق بهؤلاء، لا يجوز حمله على المؤمنين لأن المؤمنين يعلمون أنهم يحشرون إلى ربهم، والعلم خلاف الخوف والظن. ولقائل أن يقول : إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون، لأنهم وإن تيقنوا الحشر فلم يتيقنوا العذاب الذي يخاف منه، لتجويزهم أن يموت أحدهم على الإيمان والعمل الصالح وتجويز أن لا يموتوا على هذه الحالة، فلهذا السبب كانوا خائفين من الحشر، بسبب أنهم / كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه.
والقول الثاني : أن المراد منه المؤمنون لأنهم هم الذين يقرون بصحة الحشر والنشر والبعث والقيامة فهم الذين يخافون من عذاب ذلك اليوم.
والقول الثالث : أنه يتناول الكل لأنه لا عاقل إلا وهو يخاف الحشر، سواء قطع بحصوله أو كان شاكا فيه لأنه بالاتفاق غير معلوم البطلان بالضرورة فكان هذا الخوف قائما في حق الكل ولأنه عليه السلام كان مبعوثا