مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ١٩٩
وليس الأمر كذلك فانّ مجيء البأس مقدم على الإهلاك والعلماء أجابوا عن هذا السؤال من وجوه : الاول : المراد بقوله : أَهْلَكْناها اي حكمنا بهلاكها فجاءها بأسنا. وثانيها : كم من قرية أردنا اهلاكها فجاءها بأسنا كقوله تعالى : إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة : ٦] وثالثها : انه لو قال وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا لم يكن السؤال واردا فكذا هاهنا لأنه تعالى عبر عن ذلك الإهلاك بلفظ البأس. فان قالوا : السؤال باق لان الفاء في قوله : فَجاءَها بَأْسُنا فاء التعقيب وهو يوجب المغايرة.
فنقول : الفاء قد تجيء بمعنى التفسير
كقوله عليه الصلاة والسلام :«لا يقبل اللّه صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه»
فالفاء في قوله فيغسل للتفسير لان غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعة فكذلك هاهنا البأس جار مجرى التفسير لذلك الإهلاك لان الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم فكان ذكر البأس تفسيرا لذلك الإهلاك. الرابع : قال الفراء : لا يبعد ان يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال : اعطيتني فأحسنت وما كان الإحسان بعد الإعطاء / ولا قبله وانما وقعا معا فكذا هاهنا وقوله : بَياتاً قال الفراء يقال : بات الرجل يبيت بيتا وربما قالوا بياتا قالوا : وسمي البيت لأنه يبات فيه. قال صاحب «الكشاف» : قوله : بَياتاً مصدر واقع موقع الحال بمعنى بائتين وقوله :
أَوْ هُمْ قائِلُونَ فيه بحثان :
البحث الاول : انه حال معطوفة على قوله : بَياتاً كأنه قيل : فجاءها بأسنا بائتين او قائلين. قال الفراء :
وفيه واو مضمرة والمعنى : أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا او وهم قائلون الا انهم استثقلوا الجمع بين حرفي العطف ولو قيل : كان صوابا وقال الزجاج : انه ليس بصواب لان واو الحال قريبة من واو العطف فالجمع بينهما يوجب الجمع بين المثلين وانه لا يجوز ولو قلت : جاءني زيد راجلا وهو فارس لم يحتج فيه إلى واو العطف.
البحث الثاني : كلمة «او» دخلت هاهنا بمعنى انهم جاءهم بأسنا مرة ليلا ومرة نهارا وفي القيلولة قولان :
قال الليث : القيلولة نومة نصف النهار. وقال الازهري : القيلولة عند العرب الاستراحة نصف النهار إذا اشتد الحر وان لم يكن مع ذلك نوم والدليل عليه : ان الجنة لا نوم فيها واللّه تعالى يقول : أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان : ٢٤] ومعنى الآية انهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له اما ليلا وهم نائمون او نهارا وهم قائلون والمقصود : انهم جاءهم العذاب على حين غفلة منهم من غير تقدم امارة تدلهم على نزول ذلك العذاب فكأنه قيل : للكفار لا تغتروا بأسباب الأمن والراحة والفراغ فان عذاب اللّه إذا وقع وقع دفعة من غير سبق امارة فلا تغتروا بأحوالكم.
ثم قال تعالى : فَما كانَ دَعْواهُمْ [إلى آخر الآية] قال اهل اللغة : الدعوى اسم يقوم مقام الادعاء ومقام الدعاء. حكى سيبويه : اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين. قال ابن عباس : فما كان تضرعهم إذ جاءهم بأسنا الا ان قالوا انا كنا ظالمين فأقروا على أنفسهم بالشرك. قال ابن الأنباري : فما كان قولهم إذ جاءهم بأسنا الا الاعتراف بالظلم والإقرار بالإساءة وقوله : إِلَّا أَنْ قالُوا الاختيار عند النحويين ان يكون موضع (ان) رفعا بكان ويكون قوله : دَعْواهُمْ نصبا كقوله : فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا [النمل : ٥٦] وقوله :
فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ [الحشر : ١٧] وقوله : ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ [الجاثية : ٢٥] قال ويجوز ان


الصفحة التالية
Icon