مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢١٥
واما من قبل شمالي : فياتيني من قبل الشهوات فاقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبا : ٥٤] والقول الثاني : في هذه الآية انه تعالى حكى عن الشيطان ذكر هذه الوجوه الاربعة والغرض منه انه يبالغ في إلقاء الوسوسة ولا يقصر في وجه من الوجوه الممكنة البته وتقدير الآية : ثم لاتينهم من جميع الجهات الممكنة بجميع الاعتبارات الممكنة وعن رسول الله صلى اللّه عليه وآله وسلم انه قال :«ان الشيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك فعصاه فاسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغارب فعصاه وهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل ويقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل»
وهذا الخبر يدل على ان الشيطان لا يترك جهة من جهات الوسوسة الا ويلقيها في القلب.
فان قيل : فلم لم يذكر مع الجهات الأربع من فوقهم ومن تحتهم.
قلنا : اما في التحقيق فقد ذكرنا ان القوى التي يتولد منها ما يوجب تفويت السعادات الروحانية فهي موضوعة في هذه الجوانب الاربعة من البدن واما في الظاهر :
فيروى ان الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا : يا الهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع فأوحى اللّه تعالى إليهم انه بقي للإنسان جهتان : الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق في الدعاء على سبيل الخضوع او وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة
واللّه اعلم.
المسألة الثانية : انه قال : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة (من) ثم قال : وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فذكر هاتين الجهتين بكلمة (عن) ولا بد في هذا الفرق من فائدة فنقول : إذا قال القائل جلس عن يمينه معناه انه جلس متجافيا عن صاحب اليمين غير ملتصق به قال تعالى : عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق : ١٧] فبين انه حضر على هاتين الجهتين ملكان ولم يحضر في القدام والخلف ملكان والشيطان يتباعد عن الملك فلهذا المعنى خص اليمين والشمال بكلمة (عن) لأجل انها تفيد البعد والمباينة وايضا فقد ذكرنا ان المراد من قوله : مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ الخيال والوهم والضرر الناشئ منهما هو حصول العقائد الباطلة وذلك هو حصول الكفر وقوله : وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الشهوة والغضب والضرر الناشي منهما هو حصول الأعمال الشهوانية والغضبية وذلك هو المعصية ولا شك ان الضرر الحاصل من الكفر لازم لان عقابه دائم اما الضرر الحاصل من المعصية فسهل لأنه عقابه منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة (عن) تنبيها على ان هذين القسمين في اللزوم والاتصال دون القسم الاول واللّه اعلم بمراده.
المسألة الثالثة : قال القاضي : هذا القول من إبليس كالدلالة على بطلان ما يقال : انه يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو امكنه ذلك لكان بان يذكره في باب المبالغة أحق.
ثم قال تعالى حكاية عن إبليس انه قال : وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وفيه سؤال : وهو ان هذا من باب الغيب فكيف عرف إبليس ذلك فلهذا السبب اختلف العلماء فيه فقال بعضهم كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال له على سبيل القطع واليقين وقال آخرون : انه قاله على سبيل الظن لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات وعلم انها أشياء يرغب فيها غلب على ظنه انهم يقبلون قوله فيها على سبيل الأكثر


الصفحة التالية
Icon