مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٤٢
المسألة الاولى : اعلم ان اكثر اصحاب المعاني على ان قوله تعالى : لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها اعتراض وقع بين المبتدا والخبر والتقدير (و الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك اصحاب الجنة هم فيها خالدون) وانما حسن وقوع هذا الكلام بين المبتدا والخبر لأنه من جنس هذا الكلام / لأنه لما ذكر عملهم الصالح ذكر ان ذلك العمل في وسعهم غير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على ان الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير تحمل الصعب. وقال قوم : موضعه خبر عن ذلك المبتدا والعائد محذوف كأنه قيل : لا نكلف نفسا منهم الا وسعها وانما حذف العائد للعلم به.
المسألة الثانية : معنى الوسع ما يقدر الإنسان عليه في حال السعة والسهولة لا في حال الضيق والشدة والدليل عليه : ان معاذ بن جبل قال في هذه الآية الا يسرها لا عسرها. واما أقصى الطاقة يسمى جهدا لا وسعا وغلط من ظن ان الوسع بذل المجهود.
المسألة الثالثة : قال الجبائي : هذا يدل على بطلان مذهب المجبرة في ان اللّه تعالى كلف العبد بما لا يقدر عليه لان اللّه تعالى كذبهم في ذلك وإذا ثبت هذا الأصل بطل قولهم في خلق الأعمال لأنه لو كان خالق اعمال العباد هو اللّه تعالى لكان ذلك تكليف ما لا يطاق لأنه تعالى ان كلفه بذلك الفعل حال ما خلقه فيه فذلك تكليفه بما لا يطاق لأنه امر بتحصيل الحاصل وذلك غير مقدور وان كلفه به حال ما لم يخلق من ذلك الفعل فيه كان ذلك ايضا تكليف ما لا يطاق لان على هذا التقدير : لا قدرة للعبد على تكوين ذلك الفعل وتحصيله، قالوا : وايضا إذا ثبت هذا الأصل ظهر ان الاستطاعة قبل الفعل إذ لو كانت حاصلة مع الفعل والكافر لا قدرة له على الايمان مع انه مأمور به فكان هذا تكليف ما لا يطاق ولما دلت هذه الآية على نفي التكليف بما لا يطاق ثبت فساد هذين الأصلين.
والجواب : انا نقول وهذا الأشكال ايضا وارد عليكم لأنه تعالى يكلف العبد بإيجاد الفعل حال استواء الدواعي إلى الفعل والترك او حال رجحان احد الداعيين على الآخر والاول باطل لان الإيجاد ترجيح لجانب الفعل وحصول الترجيح حال حصول الاستواء محال والثاني باطل لان حال حصول الرجحان كان الحصول واجبا، فان وقع الأمر بالطرف الراجح كان امرا بتحصيل الحاصل، وان وقع بالطرف المرجوح كان امرا بتحصيل المرجوح حال كونه مرجوحاال يعرفون كل احد من اهل الجنة والنار بسيماهم. فقيل للحسن : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فخذيه ثم قال : هم قوم جعلهم اللّه تعالى على تعرف اهل الجنة واهل النار يميزون البعض من البعض واللّه لا ادري لعل بعضهم الآن معنا! اما القائلون بالقول الاول فقد اختلفوا في ان الذين هم على الأعراف من هم؟ ولقد كثرت الأقوال فيهم وهي محصورة في قولين : أحدهما : ان يقال انهم الأشراف من اهل الطاعة واهل الثواب الثاني : ان يقال انهم أقوام يكونون في الدرجة السافلة من اهل الثواب اما على التقدير الاول ففيه وجوه : أحدها : قال ابو مجلز هم ملائكة يعرفون اهل الجنة واهل النار فقيل له :
يقول اللّه تعالى : وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وتزعم انهم ملائكة؟ فقال الملائكة ذكور لا إناث.
ولقائل ان يقول : الوصف بالرجولية انما يحسن في الموضع الذي يحصل في مقابلة الرجل من يكون أنثى ولما امتنع كون الملك أنثى امتنع وصفهم بالرجولية. وثانيها : قالوا انهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم اللّه تعالى على اعالي ذلك السور تمييزا لهم عن سائر اهل القيامة وإظهارا لشرفهم وعلو مرتبتهم وأجلسهم على ذلك المكان العالي ليكونوا مشرفين على اهل الجنة واهل النار مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم.
وثالثها : قالوا : انهم هم الشهداء لأنه تعالى وصف اصحاب الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من اهل الجنة واهل النار ثم قال قوم : انهم يعرفون اهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة واهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم وهذا الوجه باطل، لأنه تعالى خص اهل الأعراف بأنهم يعرفون كل واحد من اهل الجنة واهل النار بسيماهم ولو كان المراد ما ذكروه لما بقي لأهل الأعراف / اختصاص بهذه المعرفة لان كل احد من اهل الجنة ومن اهل النار يعرفون هذه الأحوال من اهل الجنة ومن اهل النار ولما بطل هذا الوجه ثبت ان المراد بقوله : يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ هو انهم كانوا يعرفون في الدنيا اهل الخير والايمان والصلاح واهل الشر والكفر والفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء اللّه على اهل الايمان والطاعة وعلى اهل الكفر والمعصية فهو تعالى يجلسهم على الأعراف وهي الأمكنة العالية الرفيعة ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد


الصفحة التالية
Icon