مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٧١
انه تعالى استعلى على الملك بمعنى ان قدرته نفذت في ترتيب الملك والملكوت واعلم انه تعالى ذكر قوله :
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ في سور سبع. احداها : هاهنا. وثانيها : في يونس. وثالثها : في الرعد. ورابعها : في طه. وخامسها : في الفرقان. وسادسها : في السجدة. وسابعها : في الحديد وقد ذكرنا في كل موضع فوائد كثيرة فمن ضم تلك الفوائد بعضها إلى بعض كثرت وبلغت مبلغا كثيرا وافيا بازالة شبه التشبيه عن القلب والخاطر.
اما قوله : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ففيه مسائل :
المسألة الاولى : قرا ابن كثير ونافع وابو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص يُغْشِي بتخفيف الغين وفي الرعد هكذا، وقرا حمزة والكسائي وعاصم برواية ابي بكر بالتشديد، وفي الرعد هكذا. قال الواحدي رحمه اللّه : الإغشاء والتغشية البأس الشيء بالشيء، وقد جاء التنزيل بالتشديد والتخفيف فمن التشديد قوله تعالى : فَغَشَّاها ما غَشَّى [النجم : ٥٤] ومن اللغة الثانية قوله : فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس : ٩] والمفعول الثاني محذوف على معنى فأغشيناهم العمى وفقد الرؤية.
المسألة الثانية : قوله : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يحتمل ان يكون المراد يلحق الليل بالنهار وان يكون المراد النهار بالليل واللفظ يحتملهما معا وليس فيه تغيير، والدليل على الثاني قراءة حميد بن قيس يغشى الليل النهار بفتح الياء ونصب الليل ورفع النهار اى يدرك النهار الليل ويطلبه قال القفال رحمه اللّه :
انه سبحانه لما اخبر عباده باستوائه على العرش عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه منها ليضم العيان إلى الخبر وتزول الشبه عن كل الجهات فقال : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ لأنه تعالى اخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقب الليل والنهار من المنافع العظيمة والفوائد الجليلة، فان بتعاقبهما يتم امر الحياة، وتكمل المنفعة المصلحة.
المسألة الثالثة : قوله : يَطْلُبُهُ حَثِيثاً قال الليث : الحث : الإعجال، يقال : حثثت فلانا فاحتث، فهو حثيث ومحثوث، اى مجد سريع.
واعلم انه سبحانه وصف هذه الحركة بالسرعة والشدة، وذلك هو الحق، لان تعاقب الليل والنهار انما يحصل بحركة الفلك الأعظم وتلك الحركة أشد الحركات سرعة، وأكملها شدة، حتى ان الباحثين عن احوال الموجودات. قالوا : الإنسان إذا كان في العدو الشديد الكامل، فالى ان يرفع رجله ويضعها يتحرك الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل، وإذا كان الأمر كذلك كانت تلك الحركة في غاية الشدة والسرعة، فلهذا السبب قال تعالى : يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ونظير هذه الآية قوله سبحانه : لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [يس : ٤٠] فشبه ذلك السير وتلك الحركة بالسباحة في الماء والمقصود :
التنبيه على سرعتها وسهولتها وكمال إيصالها.
ثم قال تعالى : وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ وفيه مسائل :
المسألة الاولى : قرا ابن عامر وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بالرفع على معنى الابتداء والباقون بالنصب على معنى وجعل الشمس والقمر، قال الواحدي والنصب هو الوجه لقوله تعالى : وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت : ٣٧] فكما صرح في هذه الآية انه سخر الشمس والقمر كذلك يجب ان يحمل على انه خلقها


الصفحة التالية
Icon