مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٧٩
اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على كمال القدرة والحكمة والرحمة، وعند هذا تم التكليف المتوجه إلى تحصيل المعارف النفسانية، والعلوم الحقيقة، أتبعه بذكر الأعمال اللائقة بتلك المعارف وهو الاشتغال بالدعاء والتضرع، فإن الدعاء مخ العبادة، فقال : ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله : ادْعُوا رَبَّكُمْ فيه قولان : قال بعضهم : اعبدوا وقال آخرون : هو الدعاء، ومن قال بالأول عقل من الدعاء أنه طلب الخير من اللّه تعالى، وهذه صفة العبادة، لأنه يفعل تقربا، وطلبا للمجازاة لأنه تعالى عطف عليه قوله : وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والمعطوف ينبغي أن يكون مغايرا للمعطوف عليه. والقول الثاني هو الأظهر، لأن الدعاء مغاير للعبادة في المعنى.
إذا عرفت هذا فنقول : اختلف الناس في الدعاء، فمنهم من أنكره واحتج على صحة قوله بأشياء : الأول :
أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع كان واجب الوقوع لامتناع وقوع التغيير في علم اللّه تعالى، وما كان واجب الوقوع لم يكن في طلبه فائدة، وإن كان معلوم اللاوقوع كان ممتنع الوقوع فلا فائدة أيضا في طلبه.
الثاني : أنه تعالى إن كان قد أراد في الأزل إحداث ذلك المطلوب، فهو حاصل سواء حصل هذا الدعاء أو لم يحصل وإن كان قد أراد في الأزل أن لا يعطيه فهو ممتنع الوقوع فلا فائدة في الطلب، وإن قلنا إنه ما أراد في الأزل إحداث ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه، ثم إنه عند ذلك الدعاء، صار مريدا له لزم وقوع التغير في ذات اللّه وفي صفاته، وهو محال لأن على هذا التقدير : يصير إقدام العبد على الدعاء علة لحدوث صفة في ذات اللّه تعالى، فيكون العبد متصرفا في صفة اللّه بالتبديل والتغيير، وهو محال. والثالث : أن المطلوب بالدعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه، فهو تعالى يعطيه من غير هذا الدعاء لأنه منزه عن أن يكون بخيلا وإن اقتضت الحكمة منعه، فهو لا يعطيه سواء أقدم العبد على الدعاء أو لم يقدم عليه. والرابع : أن الدعاء غير الأمر، ولا تفاوت بين البابين إلا كون الداعي أقل رتبة، وكون الآمر أعلى رتبة وإقدام العبد على أمر اللّه سوء أدب، وإنه لا يجوز. الخامس : الدعاء يشبه ما إذا أقدم العبد على إرشاد ربه وإلهه إلى فعل الأصلح والأصوب، وذلك سوء أدب أو أنه ينبه الإله على شيء ما كان منتبها له، وذلك كفر وأنه تعالى قصر في الإحسان والفضل فأنت بهذا تحمله على الإقدام على الإحسان والفضل، وذلك جهل. السادس : إن الإقدام على الدعاء يدل على كونه غير راض بالقضاء إذ لو رضى بما قضاه اللّه عليه لترك تصرف نفسه، ولما طلب من اللّه شيئا على التعيين وترك الرضا بالقضاء أمر من المنكرات. السابع : كثيرا ما يظن العبد بشيء كونه نافعا وخيرا، ثم إنه عند دخوله في الوجود يصير سببا للآفات الكثيرة والمفاسد العظيمة، وإذا كان كذلك كان طلب الشيء المعين من اللّه غير جائز، بل الأولى طلب ما هو المصلحة والخير، وذلك حاصل من اللّه تعالى سواء طلبه العبد بالدعاء أو لم يطلبه فلم يبق في الدعاء فائدة.
الثامن : أن الدعاء عبارة عن / توجه القلب إلى طلب شيء من اللّه تعالى، وتوجه القلب إلى طلب ذلك الشيء المعين يمنع القلب من الاستغراق في معرفة اللّه تعالى، وفي محبته، وفي عبوديته، وهذه مقامات عالية شريفة، وما يمنع من حصول المقامات العالية الشريفة كان مذموما. التاسع :
روى أنه عليه الصلاة والسلام قال حاكيا عن اللّه سبحانه :«من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين»
وذلك يدل على أن الأولى ترك الدعاء. العاشر : إن علم الحق محيط بحاجة العبد، والعبد إذا علم أن


الصفحة التالية
Icon