مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٨٦
فان قالوا : المحسنون هم الذين أتوا بجميع وجوه الإحسان. فنقول : هذا باطل لان المحسن من صدر عنه مسمى الإحسان وليس من شرط كونه محسنا ان يكون آتيا بكل وجوه الإحسان كما ان العالم هو الذي له العلم وليس من شرطه ان يحصل جميع انواع العلم فثبت بهذا ان السؤال الذي ذكروه ساقط وان الحق ما ذهبنا اليه.
المسألة الرابعة : لقائل ان يقول مقتضى علم الاعراب ان يقال : ان رحمة اللّه قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوها : الاول : ان الرحمة تأنيثها / ليس بحقيقى وما كان كذلك فانه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند اهل اللغة. الثاني : قال الزجاج : انما قال : قَرِيبٌ لان الرحمة والغفران والعفو والانعام بمعنى واحد فقوله : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بمعنى انعام اللّه قريب وثواب اللّه قريب فأجرى حكم احد اللفظين على الآخر. الثالث : قال أنضر بن شميل : الرحمة مصدر ومن حق المصادر التذكير كقوله : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ [البقرة : ٥ ا ٢] فهذا راجع إلى قول الزجاج لان الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره قال الشاعر :
ان السماحة والمروءة ضمنا قبرا بمرو على الطريق الواضح
قيل : أراد بالسماحة السخاء وبالمروءة الكرم. والرابع : ان يكون التأويل ان رحمة اللّه ذات مكان قريب من المحسنين كما قالوا : حائض ولا بن تامر اي ذات حيض ولبن وتمر. قال الواحدي : أخبرني العروضي عن الأزهري عن المنذرى عن الحراني عن ابن السكيت قال : تقول العرب : هو قريب من وهما قريب منى وهم قريب منى وهي قريب منى لأنه في تاويل هو في مكان قريب منى وقد يجوز ايضا قريبة وبعيدة تنبيها على معنى قربت وبعدت بنفسها.
المسألة الخامسة : تفسير هذا القرب هو ان الإنسان يزداد في كل لحظة قربا من الآخرة وبعدا من الدنيا فان الدنيا كالماضى والآخرة كالمستقبل والإنسان في كل ساعة ولحظة ولمحة يزداد بعدا عن الماضي وقربا من المستقبل ولذلك قال الشاعر :
فلا زال ما تهواه اقرب من غد ولا زال ما تخشاه ابعد من أمس
ولما ثبت ان الدنيا تزداد بعدا في كل ساعة وان الآخرة تزداد قربا في كل ساعة وثبت ان رحمة اللّه انما تحصل بعد الموت لا جرم ذكر اللّه تعالى : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بناء على هذا التأويل.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ إلى ٥٨]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
[قوله تعالى وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته ] اعلم ان في كيفية النظم وجهين : الاول : انه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي وهو السموات والشمس والقمر والنجوم اتبعه بذكر الدلائل من بعض احوال العالم السفلى.


الصفحة التالية
Icon