مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٩٠
فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك ورحمته هو المطر.
إذا عرفت هذا فنقول : اختلاف الرياح في الصفات المذكورة مع ان طبيعة الهواء واحدة وتأثيرات الطبائع والأنجم والأفلاك واحدة يدل على ان هذه الأحوال لم تحصل الا بتدبير الفاعل المختار سبحانه وتعالى.
ثم قال تعالى : سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ والمعنى انا نسوق ذلك السحاب إلى بلد ميت لم ينزل فيه غيث ولم ينبت فيه خضرة.
فان قيل : السحاب ان كان مذكرا يجب ان يقول : حتى إذا أقلت سحابا ثقيلا وان كان مؤنثا يجب ان يقول سقناه فكيف التوفيق؟! والجواب : ان السحاب لفظه مذكر وهو جمع سحابة فكان ورود الكناية عنه على سبيل التذكير جائزا نظرا إلى اللفظ وعلى سبيل التأنيث ايضا جائزا، نظرا إلى كونه جمعا اما «اللام» في قوله : سُقْناهُ لِبَلَدٍ ففيه قولان : قال بعضهم هذه «اللام» بمعنى إلى يقال هديته للدين وإلى الدين. وقال آخرون : هذه «اللام» بمعنى من أجل والتقدير سقناه لأجل بلد ميت ليس فيه حيا يسقيه. واما البلد فكل موضع من الأرض عامر او غير عامر خال او مسكون فهو بلد والطائفة منه بلدة والجميع البلاد والفلاة تسمى بلدة قال الأعشى :
وبلدة مثل ظهر الترس موحشة للجن بالليل في حافاتها زجل
ثم قال تعالى : فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ اختلفوا في ان الضمير في قوله : بِهِ إلى ماذا يعود؟ قال الزجاج وابن الأنباري : جائز ان يكون فأنزلنا بالبلد الماء وجائز ان يكون فأنزلنا بالسحاب الماء لان السحاب آلة لإنزال الماء.
ثم قال : فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ الكناية عائدة إلى الماء لان إخراج الثمرات كان بالماء. قال الزجاج : وجائز ان يكون التقدير فأخرجنا بالبلد من كل الثمرات لان البلد ليس يخص به هنا بلد دون بلد وعلى القول الاول فاللَّه تعالى انما يخلق الثمرات بواسطة الماء. وقال اكثر المتكلمين : ان الثمار غير متولدة من الماء بل اللّه تعالى اجرى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب وقال جمهور الحكماء :
لا يمتنع ان يقال انه تعالى أودع في الماء قوة طبيعية ثم ان تلك القوة الطبيعية توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج / الماء بالتراب وحدوث الطبائع المخصوصة. والمتكلمون احتجوا على فساد هذا القول بان طبيعة الماء والتراب واحدة. ثم انا نرى انه يتولد في النبات الواحد احوال مختلفة مثل العنب فان قشره بارد يابس ولحمه وماؤه حار رطب، وعجمه بارد يابس، فتولد الأجسام الموصوفة بالصفات المختلفة من الماء والتراب يدل على انها انما حدثت باحداث الفاعل المختار لا بالطبع والخاصة.
ثم قال تعالى : كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى وفيه قولان : الاول : ان المراد هو انه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الأمطار فكذلك يحيي الموتى بواسطة مطر ينزله على تلك الأجسام الرميمة. وروى انه تعالى يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطار كالمنى أربعين يوما وانهم ينبتون عند ذلك ويصيرون احياء.
قال مجاهد : إذا أراد اللّه ان يبعثهم أمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور


الصفحة التالية
Icon