مفاتيح الغيب، ج ١٤، ص : ٢٩٢
بالمشقة التي لا بد من تحملها في أداء الطاعات كان ذلك اولى.
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على ان السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس وذلك لأنها دلت على ان الأرواح قسمان : منها ما تكون في اصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لان تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ومنها ما تكون في اصل جوهرها غليظة كدرة بطيئة القبول للمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كما ان الأراضي منها ما تكون سبخة فاسدة وكما انه لا يمكن ان يتولد في الأراضي السبخة تلك الازهار والثمار التي تتولد في الأرض الخيرة، فكذلك لا يمكن ان يظهر في النفس البليدة والكدرة الغليطة من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة مثل ما يظهر في النفس الطاهرة الصافية ومما يقوى هذا الكلام انا نرى النفوس مختلفة في هذه الصفات فبعضها مجبولة على حب عالم الصفاء والإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانية كما قال تعالى :
وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة : ٨٣] ومنها قاسية شديدة القسوة والنفرة عن قبول هذه المعاني كما قال : فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [البقرة : ٧٤] ومنها ما تكون شديدة الميل إلى قضاء الشهوة متباعدة عن احوال الغضب ومنها ما تكون شديدة الميل إلى إمضاء الغضب وتكون متباعدة عن اعمال الشهوة بل نقول : من النفوس ما تكون عظيمة الرغبة في المال دون / الجاه، ومنهم من يكون بالعكس، والراغبون في طلب المال منهم من يكون عظيم الرغبة في العقار وتفضل رغبته في النقود ومنهم من تعظم رغبته في تحصيل النقود ولا يرغب في الضياع والعقار وإذا تأملت في هذا النوع من الاعتبار تيقنت ان احوال النفوس مختلفة في هذه الأحوال اختلافا جوهريا ذاتيا لا يمكن إزالته ولا تبديله وإذا كان كذلك امتنع من النفس الغليظة الجاهلية المائلة بالطبع إلى افعال الفجور ان تصير نفسا مشرقة بالمعارف الإلهية والأخلاق الفاضلة، ولما ثبت هذا كان تكليف هذه النفس بتلك المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة جاريا مجرى تكليف ما لا يطاق فثبت بهذا البيان : ان السعيد من سعيد في بطن امه والشقي من شقي في بطن امه وان النفس الطاهرة يخرج نباتها من المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة باذن ربها والنفس الخبيثة لا يخرج نباتها الا نكدا قليل الفائدة والخير كثير الفضول والشر.
والوجه الثاني : من الاستدلال بهذه الآية في هذه المسألة قوله تعالى : بِإِذْنِ رَبِّهِ وذلك يدل على ان كل ما يعمله المؤمن من خير وطاعة لا يكون الا بتوفيق اللّه تعالى.
المسألة الثالثة : قرئ يَخْرُجُ نَباتُهُ اى يخرجه البلد وينبته.
اما قوله تعالى : وَالَّذِي خَبُثَ قال القراء : يقال : خبث الشيء يخبث خبثا وخباثة. وقوله : إِلَّا نَكِداً النكد : العسر الممتنع من إعطاء الخير على جهة البخل. وقال الليث : النكد : الشؤم واللؤم وقلة العطاء ورجل انكد ونكد قال :
واعط ما أعطيته طيبا لا خير في المنكود والناكد
إذا عرفت هذا فنقول : قوله : وَالَّذِي خَبُثَ صفة للبلد ومعناه والبلد الخبيث لا يخرج نباته الا نكدا فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف اليه الذي هو الراجع إلى ذلك البلد مقامه الا انه كان مجرورا بارزا فانقلب مرفوعا مستكنا لوقوعه موقع الفاعل او يقدر ونبات الذي خبث وقرئ نَكِداً بفتح الكاف على المصدر اي ذا نكد.