مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٥٤
قُلُوبُهُمْ
فو اللَّه لا أدري أمنهم أنا أم لا؟
الثالث : أن القرآن العظيم دل على أن كل من كان مؤمناً، كان من أهل الجنة فالقطع بكونه مؤمناً يوجب القطع بكونه من أهل الجنة، وذلك لا سبيل إليه، فكذا هذا. ونقل عن الثوري أنه قال : من زعم أنه مؤمن باللَّه حقاً، ثم لم يشهد بأنه من أهل الجنة، فقد آمن بنصف الآية. والمقصود أنه كما لا سبيل إلى القطع بأنه من أهل الجنة، فكذلك لا سبيل إلى القطع بأنه مؤمن. الرابع : أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وعن المعرفة، وعلى هذا فالرجل إنما يكون مؤمناً في الحقيقة عند ما يكون هذا التصديق وهذه المعرفة حاصلة في القلب حاضرة في الخاطر، فأما عند زوال هذا المعنى، فهو إنما يكون مؤمناً بحسب حكم اللَّه، أما في نفس الأمر فلا.
إذا عرفت هذا لم يبعد أن يكون المراد بقوله إن شاء اللَّه عائداً إلى استدامة مسمى الإيمان واستحضار معناه أبداً دائماً من غير حصول ذهول وغفلة عنه، وهذا المعنى محتمل. الخامس : أن أصحاب الموافاة يقولون :
شرط كونه مؤمناً في الحال حصول الموافاة على الإيمان، وهذا الشرط لا يحصل إلا عند الموت، ويكون مجهولًا، والموقوف على المجهول مجهل. فلهذا السبب حسن أن يقال : أنا مؤمن إن شاء اللَّه. السادس : أن يقول : أنا مؤمن إن شاء اللَّه عند الموت، والمراد صرف هذا الاستثناء إلى الخاتمة والعاقبة، فإن الرجل وإن كان مؤمناً في الحال، إلا أن بتقدير أن لا يبقى ذلك الإيمان في العاقبة كان وجوده كعدمه، ولم تحصل فائدة أصلًا، فكان المقصود من ذكر هذا الاستثناء هذا المعنى. السابع : أن ذكر هذه الكلمة لا ينافي حصول الجزم والقطع، ألا ترى أنه تعالى قال : لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح : ٢٧] وهو تعالى منزه عن الشك والريب. فثبت أنه تعالى إنما ذكر ذلك تعليماً منه لعباده، هذا المعنى، فكذا / هاهنا الأولى ذكر هذه الكلمة الدالة على تفويض الأمور إلى اللَّه، حتى يحصل ببركة هذه الكلمة دوام الإيمان. الثامن : أن جماعة من السلف ذكروا هذه الكلمة، ورأينا لهم ما يقويه في كتاب اللَّه وهو قوله تعالى :
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وهم المؤمنون في علم اللَّه وفي حكمه، وذلك يدل على وجود جمع يكونون مؤمنين، وعلى وجود جمع لا يكونون كذلك. فالمؤمن يقول : إن شاء اللَّه حتى يجعله اللَّه ببركة هذه الكلمة من القسم الأول لا من القسم الثاني. أما القائلون : أنه لا يجوز ذكر هذه الكلمة فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه : الأول : أن المتحرك يجوز أن يقول : أنا متحرك ولا يجوز أن يقول أنا متحرك إن شاء اللَّه، وكذا القول في القائم والقاعد، فكذا هاهنا وجب أن يكون المؤمن مؤمناً، ولا يجوز أن يقول : أنا مؤمن إن شاء اللَّه، وكما أن خروج الجسم عن كونه متحركاً في المستقبل لا يمنع من الحكم عليه بكونه متحركاً حال قيام الحركة به فكذلك احتمال زوال الإيمان في المستقبل، لا يقدح في كونه مؤمناً في الحال. الثاني : أنه تعالى قال : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقد حكم تعالى عليهم بكونهم مؤمنين حقاً فكان قوله إن شاء اللَّه يوجب الشك فيما قطع اللَّه عليه بالحصول وذلك لا يجوز.
والجواب عن الأول : أن الفرق بين وصف الإنسان بكونه مؤمناً، وبين وصفه بكونه متحركاً، حاصل من الوجوه الكثيرة التي ذكرناها، وعند حصول الفرق يتعذر الجمع، وعن الثاني أنه تعالى حكم على الموصوفين بالصفات المذكورة بكونهم مؤمنين حقاً، وذلك الشرط مشكوك فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط. فهذا يقوي عين مذهبنا. واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon