مفاتيح الغيب، ج ١٥، ص : ٤٥٦
قلنا : إنه تعالى بدأ بقوله : الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ وجميع التكاليف داخل تحت هذين الكلامين، إلا أنه تعالى خص من الصفات الباطنة التوكل بالذكر على التعيين، ومن الأعمال الظاهرة الصلاة والزكاة على التعيين، تنبيهاً على أن أشرف الأحوال الباطنة، التوكل وأشرف الأعمال الظاهرة، الصلاة والزكاة.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ إلى ٦]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن قوله : كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوهاً : الأول :
أن النبي صَلَّى اللّه عليه وسلّم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال :«من قتل قتيلًا فله سلبه ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا» ليرغبهم في القتال، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة : يا رسول اللَّه إن جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم، ولم يتأخروا عن القتال جبناً ولا بخلًا ببذل مهجهم ولكنهم أشفقوا عليك من أن تغتال فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق من المسلمين بغير شيء فأنزل اللَّه تعالى : يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [الأنفال : ١] يصنع فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهية
وأيضاً حين خرج الرسول صَلَّى اللّه عليه وسلّم إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقاتلة على ما سنشرح حالة تلك الكراهية، فلما قال تعالى : قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ كان التقدير أنهم رضوا بهذا الحكم في الأنفال وإن كانوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحق إلى القتال وإن كانوا كارهين له وهذا الوجه أحسن الوجوه المذكورة هنا. الثاني : أن يكون التقدير ثبت الحكم بأن الأنفال للَّه، وإن كرهوه كما ثبت حكم اللَّه بإخراجك إلى القتال وإن كرهوه. الثالث : لما قال : أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كان التقدير : أن الحكم بكونهم مؤمنين حق، كما أن حكم اللَّه بإخراجك من بيتك للقتال حق. الرابع : قال الكسائي :«الكاف» متعلق بما بعده، وهو قوله : يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ والتقدير كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. واللَّه أعلم.
المسألة الثانية : قوله : مِنْ بَيْتِكَ يريد بيته بالمدينة أو المدينة نفسها، لأنها موضع هجرته / وسكناه بالحق، أي إخراجاً متلبساً بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في محل الحال، أي أخرجك في حال كراهيتهم.
روي أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها أربعون راكباً منهم أبو سفيان، وعمرو بن العاص، وأقوام آخرون، فأخبر جبريل رسول اللَّه صَلَّى اللّه عليه وسلّم، فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير، وقلة القوم، فلما أزمعوا وخرجوا، بلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول! إن أخذ محمد عيركم لن تفلحوا أبداً، وقد رأت أخت العباس بن عبد المطلب رؤيا، فقالت لأخيها : إني رأيت عجباً رأيت كأن ملكاً نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل، ثم حلق بها فلم يبق رجالهم بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة، فحدث بها العباس. فقال أبو جهل : ما ترضى رجالهم بالنبوة حتى ادعى نساؤهم النبوة! فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير، وفي المثل السائر